من أين أبدأ هذا المقال؟ هل أفعل كما فعلت أكيكو-سينسي وأسرد ما يخطر ببالي، من هنا وهناك، أم أحاول تنظيم أفكاري كالمعتاد، وأحلّل كلّ ما جعل هذه القصّة تطرق مشاعري بالطريقة تلك. لا أعتقد أنّ ما قامت به أكيكو-سينسي كان سهلاً، ولا أريد تدنيس ذاك الأسلوب بسردٍ منخفض الجودة يقوّض ما قدّمته هي في قصّتها. ولا أريد قطعاً أن أمتطي قصّتها لرواية قصّتي الخاصة، ولأجعل حكايتها مجرّد “أداةٍ” لعرض حكايتي أنا.
لكن في الحقيقة، لا يمكنني شرح ما أشعر به دون الاستطراد بهذا الشكل، لا يمكنني عرض ما يجعل هذه القصّة عظيمةً برأيي دون أن أسرد قصّتي مع القصّة، وكيف استطاعت امرأة في الأربعينيات من العمر في النصف الآخر من العالم أن تجيب على أسئلة أطرحها على نفسي يومياً في السنوات الأخيرة، أو على الأقل أن تقدّم لي العزاء في الجهل المشترك.
لهذا أرجو منك -عزيزي القارئ، كما يقول مترجم المانغا- أن تصبر معي قليلاً، وأن تأخذ خروجي المتكرر في هذا المقال عن الموضوع الأصليّ -وهو المانغا ذاتها- بروح رياضيّة، وأعدك بدوري أن أحاول إبقاء الاستطراد هذا محدوداً قدر المستطاع.
صديقتنا أكيكو-سينسي
عندما تجلس مع صديقٍ قديم لك في المقهى، ليسرد لك أحداث سنواته السابقة التي كنت غائباً فيها عنه، ستلحظ أمرين: الأول أن صديقك لن يحاول إقناعك بما قام به غالباً، فهذا ليس مهمّاً الآن، بل سيسرد لك “شعوره في تلك اللحظات”. والثاني أن صديقك لن “يريك الأمور من منظوره” – على العكس، سيرغب أن يرى الأمور من منظورك أنت، وأن يسمع إجاباتك على الأسئلة التي تؤرّقه.
ما تقوم به أكيكو-سينسي في قصّتها هذه هو ذاك، فهي هنا الصديق القديم، ونحن نسمع لقصّتها تلك من منظورنا الشخصيّ، وما تسرده لنا هو مشاعرها المتأججة والباقية من أيام صباها، شكوكها وآمالها وندمها، وعلينا كقراء أن نرى الأمور من منظورنا الشخصي – أن نحكم على أكيكو-الأمس بما نعرفه عن أكيكو-اليوم.
وهذا السرد تحديداً هو ما يجعل هذه القصّة مميزةً برأيي، ليس فقط بسبب أسلوب أكيكو-سينسي في تقديم الأحداث، بل بسبب نظرتها لذاتها ونقدها اللطيف وتعليقاتها الساخرة وندمها – وكأنك تسمع في كلماتها المكتوبة انكسار الصوت وانفعالاته وهي تحكي لك ما مرّت به.
هذا -وإن كان قولي مبتذلاً- برأيي هو البلوغ بعينه، أن تكون أكيكو-اليوم قادرةً على التعامل مع ذاتها في الماضي، لا بلوم وحقد، ولا بحبّ مبالغ فيه، أن تجلس أمام صفحات المانغا وتسرد لنا ما حصل معها بتفهّم كبير لذاتها السابقة ولكن من منطلق فهمها الجديد للعالم.
لا تحاول أكيكو-سينسي إقناعك بأن قصّتها حزينة أو سعيدة أو أنها قامت بفعل الصواب أو أنها الشريرة في هذه القصة، لا تحاول حتى أن تطلب منك “أن تسامحها” أو أن تتعاطف معها، وهذا تماماً ما يجعلك أقدرَ على فعل ذاك كله.
لأن مشاعرها الصادقة أقدر على إقناعك بـ”مسامحتها” و”قبولها بخيرها وشرّها” من أيّ تبرير يمكن لها تقديمه.
لأنها تخاطبك كصديق وكنظير، لا كتابع أو كطفل صغير. ولعلّ جزءًا من هذا قادمٌ من توقّع أكيكو-سينسي قراءة أصدقائها ونظرائها في حياتها الواقعية للقصة. لكنّ السبب لا يهم في هذه الحالة، فالنتيجة ذاتها.
وهذا الخطاب الصادق انعكاس مباشر لتقبّلها لذاتها ولعثرات ماضيها، وللخيارات التي تدرك الآن أنها كانت غير ملائمة، لكنّها تدرك أيضاً أن ما تراه وتعلمه الآن قادمٌ من تلك التجارب ومن تلك الأخطاء، وهذا -مجدداً- هو البلوغ بعينه.
عندما قرأت القصّة، أجابتني أكيكو-سينسي عن سؤالٍ طرحته مطولاً على نفسي، بكل نظرةٍ أنظرها للماضي وأرى فيها هادي-الأمس يقوم بأمر أعلم اليوم أنّه لم يكن الخيار الأمثل، هل الندم على مثل هذه الأمور أو ضيق النفس الذي أشعر به عندما أذكرها أمر حسن؟ هل هو دليلٌ على عدم تخطّي تلك المرحلة من حياتي؟ أم دليلٌ على فهمي لأخطاء الماضي؟
وفي قمّة ضغط الحياة المتراكم، أجد في تقبّل أكيكو-سينسي لماضيها الإجابة، وأدرك أنّنا -أنا، شابٌ في منتصف العشرينيات، في الشرق الأوسط، وهي، امرأة أربعينية، في الشرق الأقصى- كلانا يجهل الإجابة على هذه الأسئلة.
الفرق فقط أن أكيكو-سينسي قررت النظر لأكيكو-الأمس على أنّها صديقةٌ وربما طفلة حتّى، لتحوّل مشاعر الندم والضيق تلك إلى عطفٍ وتقبّل لذاتها.
أعلم تماماً أنّ أكيكو ربما لم تخطط للإجابة على هذا السؤال عندما كتبت المانغا، وأعلم أيضاً أن هذا السؤال ليس حكراً عليّ، وليس جديداً، وليست هذه الإجابة الوحيدة عليه.
لكن في تلك اللحظات، وأثناء قراءتي للمانغا، عثرت أخيراً على الإجابة.
تأبين
هذه القصّة -بكل عناصرها- رسالةٌ مفتوحةٌ لمعلّم أكيكو-سينسي، والذي لا يخفى على القارئ النبيه من الفصل الأول للقصة أنّه توفّي قبل كتابتها.
وهذا التأبين المتأخر للمعلم الذي ساعد أكيكو-سينسي في الوصول إلى ما هي عليه اليوم من النجاح، يحمل في طيّاته أيضاً العديد من الأسئلة والإجابات، والعديد من اللحظات “المنيرة” إن صح التعبير، سواء كان هذا للقارئ أو لأكيكو-سينسي نفسها.
ولكن، ما أراه أهمَّ من هذه اللحظات هنا هو المعلّم ذاته، وصورته المرسومة في ذهن أكيكو-اليوم، وكيف انتقلت هذه الصورة من ذاكرتها إلى الورق، ومن الورق إلى قلوب القرّاء.
لم تحاول أكيكو-سينسي في قصّتها أن تعرض المعلّم على أنّه “شخصيّة” بالمعنى التقليدي، فهي تعترف في كثير من الأحيان أنّها ربما لم تفهم طريقة تفكيره، وربما ما تزال جاهلة بكثير من طباعه المميزة، لكنّها عرضت لنا “انطباعه” في مخيّلتها.
رسمته من زوايا كانت محفورة في ذهنها، وسردت لنا ما قال من كلامه الراسخ في ذاكرتها، وعرضت لنا النقاط المحورية التي جعلته بنظرها شخصيّة محورية، ثم في المقابل، عرضت ذكرياتها عن تلك اللحظات بشفافية، أظهرت جهلها واعترفت به، وقدّمت في النهاية آراءها وما أدركته حول تلك المواقف بعد كل تلك السنوات.
وفي نهاية كلّ فصل، ومع كلّ رسالةٍ صغيرةٍ ترسلها وتخاطب فيها معلّمها، تشعر بأن ذاك الشخص أقرب وأقرب منك، وأنك أقرب وأقرب من فهم مشاعر أكيكو-اليوم، وأكثر قدرةً على “مسامحتها” إن صح التعبير.
الترجمة العربية
عمل على ترجمة المانغا بالنسخة التي قرأتها أحمد الأرسيناليّ مع فريق إحياء الروائع، وللترجمة العربيّة باعتقادي دورٌ كبيرٌ جداً بما كسبته من قراءتها، فالترجمة هذه برأيي أعطت القصّة حقّها، وهو أمرٌ ليس بالسهل، عندما تكون القصّة بهذه الجودة، تعجز الترجمة عادةً -خصوصاً ترجمات الفانز غير الرسمية- عن نقل كلّ التجربة للّغة الهدف.
لكنّ ترجمة أحمد مختلفة، فهي برأيي تضرب التوازن المثالي بين “التوطين” وبين الإخلاص للنص، فما فيها تغييرٌ سوى للتعابير المبهمة بالعربية، وجملها معادةُ الترتيب بصيغة عربيّة فصيحة، تجعل فهم الكلام أسهل وأكثر سلاسة.
المانغا كطريقة لسرد القصص المكتوبة تفرض على الكاتب العديد من المحدوديّات، فنظام الفقاعات يعني أن الكلام الممكن تضمينه في كلّ جملةٍ محدود، وعند النقل من اليابانية للعربية أو الإنجليزية، تزداد صعوبة نقل المعلومة دون تعدّي حدود الصورة.
وهنا يمكن ملاحظة الجهد الأكبر في عمل أحمد فهو ينقل الفكرة كاملةً وتبقى مفهومة بالكامل، وكلّ هذا ضمن حدود الصورة وفي بعض الأحيان حتّى في أصغر من حدودها.
كل كلمةٍ وكلّ عبارة موضوعة في مكانها المناسب، ولو لم أكن أعلم أنّه قام بترجمتها تطوعاً مع فريق من المستقلين، دون مقابل ماديّ، لقلت إنّ الترجمة صدرت من شركة إنتاجٍ مختصّة بترجمة المانغا وتوطينها للعربية.
لذا أنصح وبشدّة بقراءة هذه المانغا من ترجمته العربيّة، حتّى لمن اعتاد القراءة بالانجليزية، ففيها جزءٌ من التجربة لن تحصل عليه من غيرها.
لا اعرف ما اوقل سوى مقالة رائعة