على السطح، فيلم “المخطوفة” Spirited Away يحكي قصّة فتاة صغيرة تدخل عالم الأرواح، لتجبر فيه على العمل لدى ساحرة عجوز على أمل أن تنجو من خطر الأرواح المحيطة بها، وأن تنقذ والديها الّلذان تحوّلا إلى خنازير يتم إطعامها وتسمينها بهدف الذبح لاحقاً.
يعرض كلّ هذا بأسلوب لطيف على الرغم من قتامة القصّة عند النظر إليها بتلك الصيغة المبسّطة، ويبقي أجواء القصّة ساحرةً للمشاهد بما يكفي لإدخاله في دوّامات تفسير ما خلف تلك المعاني، كأيّ عمل فنّيّ جيّد، بدلاً من تلقيمها للمشاهد بطريقة مباشرة.
فيلم Spirited Away قابل للتفسير على عدّة وجوه، ولكلٍّ نظرته الخاصّة في قراءة ما يحاول العمل -بكافّة جوانبه- إيصاله، ولكن بالنسبة لي، هذا الفيلم يحكي قصّة البلوغ، ليس بمعناه الجسديّ والجنسيّ، بل بمعناه التقنيّ والعمليّ؛ يحكي عن مرحلة انتقال الطفل من كونه متلقّياً للعناية إلى مرحلة إعالته لنفسه كبالغ، وكيف يؤثّر العالم الصناعيّ المرتبط بالمادّيّة وصراعه مع الطبيعة اليوم على هذه المرحلة الهامّة في بناء الفرد.
تشيهيرو
من البداية، نرى أن حدس تشيهيرو مصيب، مع دخول الوالدين إلى النفق الذي لم ترتح له ولا للتماثيل المنصوبة أمامه، وحتّى وصولها إلى المائدة المفتوحة التي رفضت الأكل منها على الرغم من حثّ والديها، وحتى ثقتها بهاكو على الرغم من اتهام الجميع له بالخيانة.
حدس تشيهيرو محقّ من البداية، وتمسّكها بهذا الحدس هو ما ينجيها، هذا الحدس الذي يحاول دفعها بعيداً عن الخطر، ينجيها من الطمع الذي وقع فيه والداها، ويساعدها على الهرب من المكان بسبب ثقتها وحبّها لهاكو على الرغم من نصائح من حوله بفعل ما يخالفه.
أوبابا
أوبابا هي الأخت الأكثر جشعاً والأكثر مادّية والأكثر بروداً بين الأختين، لا تتصرف أوبابا مع تشيهيرو بحنان سوى عندما تعود عليها بنفع مادّيّ، ولا تعامل العاملين لديها، حتّى هاكو المميّز، بأيّ اهتمام، وتعتبرهم أغراضاً يمكن التخلّص منها، عندما يجرح هاكو لا تكترث لجراحه وتحاول التخلّص منه بأسرع ما يمكن، وعندما يموت عامليها تحاول إنقاذهم فقط كي لا يتوقف حمّامها عن العمل.
بنفس الوقت، يمكن أن نرى أنّ العاملين لديها ليسوا حانقين على ما تقوم به، ولا يبدون معترضين على هذا النظام “الظالم” إن صحّ التعبير، بل يعملون جميعهم برضى على الرغم من اعتبار أغلبهم -أو على الأقل رؤوسهم- الحمّام “سجناً” عليهم أن يعيشوا فيه حتّى تتاح لهم فرصة الخروج.
المثير للسخرية هنا، أنّ هؤلاء العمّال نفسهم يبدو وكأنّهم يعانون من الجشع نفسه الذي تعاني من أوبابا، وفي أوّل فرصة للحصول على الذّهب دون أن تلاحظ أوبابا، ينشغلون جميعهم في جمعه بدلاً من القيام بأعمالهم. الذهب نفسه هنا لا قيمة له، فكلّهم أرواح ويعيشون في عالمٍ سحريّ يمكن الوصول له والخروج منه دون سبيل للعودة.
على الرغم من كلّ هذا، أوبابا لا تزال تقدّم “هدفاً” لحياة هؤلاء الموجودين لديها، ولا تزال تقدّم خدمة للأرواح التي تحتاج تطهيراً، ولا تزال تهتمّ بزبائنها حقّاً، وتندفع بنفسها لإنقاذهم كما فعلت مع روح النهر الملوّثة.
زينيبا
في الطرف المقابل، زينيبا هي الأخت اللطيفة، “الجدّة” التي تتعامل برقّة مع ضيوفها، وهي النقيض لأوبابا في كلّ شيء حتّى في مكان المعيشة، بيتها متواضع وبسيط، بعيد عن الصخب والازحام، ولا تستخدم قدراتها السحريّة في جمع المال الذي لا طائل منه.
وعلى الرغم من لطفها الزائد الظاهر في نهاية القصّة، نرى في البداية وجهاً آخر لها يجعلنا نعتقد أنّها الأخت الأكثر قسوة، بالطريقة التي تضع فيها لعنة على الطفل والطير، وتحاول قتل هاكو الذي سرق منها الختم الذهبيّ. لنكتشف في النهاية أنّ اللعنة كانت مؤقتة، وأنّ ما حاول قتل هاكو لم يكن لعنتها -التي كسرت بالحبّ الحقيقي- بل لعنة أختها التي سيطرت على هاكو وذكرياته.
أوبابا وزينيبا هما الينّ واليانغ، الشر الذي في داخله القليل من الخير، والخير الذي في داخله القليل من الشر، وكلاهما وجهان لعملة واحدة؛ القدرة على البناء والإنشاء، هذه القدرة التي تعرّف العصر الحديث بأكمله.
هاكو
هاكو هو روح النهر المحبوسة، وكما يظهر في نهاية القصّة، روح نهر سدّه البشر بأبنيتهم وقطعوا جريانه، يحاول من البداية مساعدة تشيهيرو العيش في هذا العالم السحريّ، بمساعدتها أوّلاً في العثور على عمل في هذا الحمّام بدلاً من أن تؤكل أو تتحول إلى فحم يحرق في النار كما الكثير من البشر العاجزين عن العثور على عمل.
الطعام الذي يقدمه لها في البداية هو ما يمنعها من التحول إلى شبح بالكامل، ومساعدته وتضحيته في النهاية هما ما يساعدانها على نيل الحريّة. هاكو في هذه القصّة يعبّر عن الطبيعة التي يحاول البشر تسخير قوّتها في منفعتهم، ويجعلونها تقوم بما يريدونه.
أوبابا تظهر في البداية معتمدة على هاكو، ولكن في لحظة ضعفه تسارع في التخلّص منه، بينما زينيبا التي هاجمته محاولة استعادة ختمها السحريّ الذهبيّ المسروق، قدّمت له المساعدة لاحقاً وسامحته مباشرة بروح طيّبة.
علاقة هاكو مع طرفي الحياة الحديثة “أوبابا وزينيبا” تشابه علاقة المجتمعات المختلفة بالطبيعة؛
مهما بدا أن المجتمعات الصناعية الجشعة تهتمّ باستغلال قدرات الطبيعة لتحقيق النفع الأكبر، بمجرد ضعفها ومشارفتها على الموت، ستحاول التخلّص منها بأسرع ما يمكن.
في الطرف المقابل، مهما قامت الطبيعة بأذيّة المجتمعات الأكثر بساطة -ربما المجتمعات القروية المقصودة هنا- ومهما كانت العلاقة بينهما متوتّرة، سيبقى حبّ هذه المجتمعات للطبيعة أكثر نقاوة، واعتذار بينهما يكفي حتّى بعد خسارة كبيرة للطرفين.
حتّى أفضل وأكثر الناس لطفاً من العاملين تحت يد أوبابا، لا يزالون يرون هاكو على أنّه “مخادع وماكر” دون أيّ دليل قاطع، ويتجاهلون الطريقة التي تستغلّه أوبابا فيها من سنوات، وهي ربما دلالة على الطريقة التي تعرض فيها الطبيعة في أغلب المجتمعات الحديثة على أنّها “العدوّ” الخفيّ الذي لا يمكن توقّع حركته المقبلة، على الرغم من أنّ عدوانيّته هذه قادمة من محاولة سجنه ضمن “حمّام” صغير.
قطع أخرى من الأحجية
عند النظر إلى القصّة على أنّها تمثيل لانتقال الأطفال من حياة الحضانة الأبويّة إلى حياة العمل في نظام صناعيّ يستغلّ الطبيعة والبشر في تحقيق قيمة مادّية لا قيمة لها، تبدأ العديد من الأجزاء الأخرى الموجودة في الفيلم بلعب دور مهمّ في هذا التمثيل، وعلى الرغم من أنّها بنفسها من الممكن أن تكون قصصاً ذات عبرة يمكن استسقائها بذاتها دون سياق، كقصّة والديّ تشيهيرو مثلاً، إلّا أنّها تقع في مكانها المثاليّ ضمن التمثيل الذي ذكرته قبل قليل.
على سبيل المثال، نرى في قصّة الغبار المسحور الذي يقوم بعمله في نقل الفحم إلى الحارق كناية عن العمل التطوّعيّ في غير محلّه، وكيف قد يتحوّل قيام شخص لمهمّة واحدة مرّة واحدة بنيّة طيّبة، إلى سجن يبقى فيه تحت ضغط أقرانه الذين ساعدهم – لولا تدخّل العجوز اللطيف لإنقاذها من هذا.
في مكان آخر، نرى أنّ “لين” الأكثر بشريّة وتعاطفاً مع الفتاة من بين الأرواح الموجودة في الحمّام، ليست معصومة عن الخطأ، فهي تشاركهم في حبّهم للذهب وجشعهم، وتعمل في الحمّام منذ وقت طويل بدلالة كونها أحد المشرفين، على الرغم من رغبتها الأبديّة في الخروج منه والذهاب لمكان آخر، يمكن أن تفهم قصّة لين كقصّة عشرات الأشخاص الطيّبين العالقين في وظائف لا تلائمهم، على أمل الخروج منها يوماً ما وتحقيق أحلامهم.
في النهاية، ترحل تشيهيرو بآخر بطاقات الباص، وتودّع لين للمرة الأخيرة، لتبقى في ذاك المكان دون أمل للخروج منه في المستقبل.
باختصار
بحسب فهمي، يحاول الفيلم الحديث عن البلوغ بمعناه العمليّ، بدلاً من الحديث عن معناه الموجود في أعمال البلوغ Coming of Age اليابانيّة التي تحاول استكشافه من ناحية جسدية وجنسية. هذا البلوغ الذي يضع الفرد في دوّامة بين الطبيعة والفطرة السليمة والحدس الصائب، وبين بيئة العمل الحديثة المشابه للسجن، وجشع الرأسماليّة الذي لا طائل منه، والرفاهيّات التي قدّمتها الثورة الصناعيّة سواء لأولئك الذين قررو الانعزال بنفسهم بعيداً، أو العمل كجزء من آلة أكبر.
صراحة هذا أجمل و أدق ما قيل عن العظمة ” المخطوفة ” و أتمنى أن تحويله إلى فيديو ?
عظيم جدا أخي
+ أظن ما نقصك في الخلاصة هو الربط ويبدو أنك تطرقت لكل المواضيع وعلاقتها ببعضها أكثر في التفصيل سأحاول قريبا قراءتها وأعطيك رأيي بها
أحسنت + اربط اسم العمل بمحتواه في المرة القادمة
سرد رائع وجميل
حبيت كتير شرح حضرتك
♥️♥️♥️👏