المقال من كتابة: جينا سلطان / نُشرت في مجلة الأدب العلمي عدد ٥٦ – نيسان ٢٠١٨
تعود أصول الأشياء والأشكال إلى الأفكار، التي تنتهي متوالياتها عند تخوم الأحلام السرمدية للمبدع، مما يجعل لكل فكرة متخلقة ضمن أبعاد مادية كينونة خاصة بها، تتناسل بدورها في متاهات العالم الحسي، لتبتكر صوراً لانهائية، يقود تجميعها إلى جذوة الفكرة ذاتها.
وبينما ينهض الخطأ والارتباك مع كل استنساخ يؤب التراكم إلى تصقل الحقيقة المهاجرة عن موطنها، وعودتها من منفاها بنشوة تزدان بحبور مجاوزة الآن، المرتكز إلى الشرطية الإنسانية وسؤالها. وبالتالي، تجبل كل ولادة وانقذاف إلى عالم المدركات الحسية ضروباً شتى من التشظيات والانقسامات الداخلية، مما يجعل رحلة التعرف على الذات إبحاراً في غموض المجهول، الذي ينهض بدوره كتابع للذاكرة الكلية للكون. وهو ما يرتسم في الأذهان كتمييز لثنائية الخير والشر، وما يرتبط بها من أضداد تسربل الحقيقة بأطياف الصراعات المتداخلة بين “النور ـ العلم” و”الظلام ـ الجهل”.
ومع إسقاط الفلسفة الأفلاطونية لأهمية اختبار العالم من خلال الحواس، واعتباره مجرد استنساخ غير مكتمل للحقيقة، فإن إلغاء عنصر الإفساد يتحول إلى هدف أساسي لكل معادلات الإسفار عن “الماهيات” المؤبدة في ثباتها، والتي كُتب عليها أن تفارق صفة الإدراك لدى المرتحل في عالم الأبعاد، لتغدو مكنوناً يؤسس لمشروعية الأشياء ومعقوليتها، ولكن دون أن يتناهى إليها أو يتماهى معها أو بها.
وبالتالي، فهذا العالم التجريبي، الذي يرتسم مطهراً لغلوائية الشك والارتياب والازدواجية في معايير المقايسات الأخلاقية الخاضعة للنسبية، يتبع لموضوعات الفكر الخالص، المتمظهر في نماذج الأشياء، مما يجعل الوصول إلى المعرفة منوطاً بتجاوز مصيدة المادة، ويحول اللغة إلى وسيلة لتداول المعرفة بين البشر، وهو ما يرمز إليه بثنائية “الدال والمدلول”.
“من العالم الجديد” from the new world
ضمن تداعيات الفلسفة الأفلاطونية، والإسقاطات المعاصرة لتبعات الخلود البشري في البوتقة المادية، يغوص الروائي الياباني “يوسكي كيشي” yusuke kishi، في روايته “من العالم الجديد” shinsekai yori، التي نشرت في عام 2008، ونالت عدة جوائز، فتم تحويلها إلى مسلسل أنيمي حمل توقيع المخرج الياباني “إيشهاما ماساشي” ishihama masashi، وتم عرضه في نهاية عام 2012.
تبتدأ الحلقة الأولى بمشاهد عنف متلاحقة، أبطالها يافعون على مشارف البلوغ، يتأتى لهم اكتساب صحوة روحية معينة في عام 2011، تنعكس على شكل قتل وتدمير واغتصاب، الأمر الذي سيرتسم مغزاه مع توالي الحلقات الخمس والعشرون للمسلسل…
ثم يمر ألف عام، ويلوح عند الغروب فتية يشاهدون كائن الـ”مينوشيرو”، الذي يمثل حافظ ذاكرة العالم الماضي. فيما تؤدي طفلة متأخرة عن بقية رفاقها وتدعى “ساكي” طقوس الانتماء إلى عالم المدينة الفاضلة “اليوتوبيا”، الذي أعاد الروائي “كيشي” تجميعه عبر مزواجة ذكية بين الفلسفة الأفلاطونية وقوانين وحدة الوجود الشرقية، المتبعة في اليابان تحت تسميات دينية شتى.
معبد النقاء
تجلس “ساكي” أمام الكاهن الأعلى “موشين” في معبد النقاء، حيث تُجرى لها طقوس مفارقة الطفولة، التي تتوقف عند سن الثانية عشر، تمهيداً للانتقال إلى مرحلة البلوغ. وهو ما يتبدى في الوقوف أمام نار عظيمة تشتعل فيها عصي الأرز، وترمز إلى نار التطهر، حيث يتم إحراق الرغبات الدنيوية، المستندة جذرياً على التعلق، من أجل بلوغ التبصر. وتُدفع الفتاة إلى محاولة التحكم بالنار، وهي عملية تسبق قدوم الروح المباركة، لتعنون التخرج من مدرسة “التناغم”، تمهيداً لدخول أكاديمية الحكمة.
تنجح “ساكي” بتحريك النار، عبر تجميع قواها الداخلية، ويغمرها الفرح برهة، قبل أن يأتيها أمر التريث أمام آخر رغبة دنيوية متبقية لديها، والمتمثلة في “الكانتوس” الخاص بها، الذي يعني الموسيقا في اللغة اللاتينية، ويرمز إلى القدرة أو الذخيرة الروحية، المقترنة بكل كائن حي، ومتأتية عن تراكم خبرات حيوات كثيرة خاضعة لقانون الكارما، القائم على الفعل ورد الفعل وتجلياتهما.
لذلك، يطلب الكهنة منها التخلي طواعية عن القوة التي منحتها إياها السماء، وإعادة “الكانتوس” إلى الأسياد، عبر ختمه في شعار بشري. ثم يُطلب منها التحكم بالشعار وجعله يقف، لتشيِّع كل أحاسيسها الشخصية داخل هذا الشعار. وهي عملية تعطي دلالة على التفاني العظيم، والإقبال الطوعي على اكتساب الحكمة النقية، بعد تنحية الشوائب المادية المتسربة من “الكانتوس”. ولكن مع استئصال “الكانتوس” تتجرد الفتاة من المقدرة على التحكم بالنار، وتُعطى تعويذة تساعدها على استدعاء “كانتوس” جديد كلياً، وكأنها تغدو ذات روح نقية تفتقر إلى خبرات التجسد في العالم الأرضي وشرطيته النسبية.
أكاديمية الحكمة وشياطين الكارما
يتعلم اليافعون في أكاديمية الحكمة التحكم بقدراتهم، عبر ربطهم ضمن مجموعات تتكون من خمسة أو ستة أفراد من الذكور والإناث. وهو تطبيق مباشر لإحدى دعائم الفلسفة الأفلاطونية، القائمة على اعتبار الحاجة الإنسانية دافعاً عريزياً إلى الاجتماع المنظم، مما يجعل الأخوة أساس الرابطة بين الأفراد.
أما ضبط الرغبة في العمل، التي تمثل “القوة الشهوانية” في الإنسان، وتجسدها أفلاطونياً الطبقة العاملة، فيتم عبر تحفيز مهارات الطلاب الذهنية من خلال ممارسة النشاطات المختلفة، كتركيز الذهن من أجل بناء هرم من الأوراق، أو تكثيف الطاقات للارتفاع بالجسد فوق الأرض كحال “ماريا”، أو استنساخ صورة ذهنياً فوق لوحة قماشية انطلاقاً من رؤية أولية..
وهذه الأنشطة كانت تهدف بشكل أساسي إلى غربلة الطلاب لتصفية أولئك الذين يفشلون أو يتعثرون أثناء استخدام طاقاتهم. كحال الفتاة “ريكي” التي تختفي عقب فشلها في إنجاز تمارينها، وإعاقتها لمجموعتها، إضافة إلى اختفاء أطفال عجزوا عن التخرج من مدرسة التناغم، فكان مصيرهم الاختفاء بدون ترك أي أثر وراءهم، وهو مصير كان يهدد البطلة “سايكي” نفسها، رغم كون والديها من كوادر النخبة في الأكاديمية.
ويلاحظ ظهور كائنات طاقية تسمى بـ”كلاب الكارثة” و”القطط المقلدة”، يمكن اعتبارها استنساخاً عن القطط والكلاب الحقيقية، ويناط بها مهمة التخلص من الأشخاص الذين لا يتناغمون مع صورة المدينة الفاضلة، أو يفشلون في تنفيذ المهمات الملقاة على عاتقهم. وتضاف إلى ذلك مزاولة الألعاب الرياضية الجماعية، التي تكشف طبيعة اللاعبين الخفية أثناء خوضهم صراعات المنافسة، المحكومة بدستور الفضيلة، لذلك يتم التخلص فوراً من الأفراد الذين يعمدون إلى الغش من أجل الفوز، لأن الغش يعد انتهاكاً للفضيلة.
تسور “المدينة ـ القرية” الفاضلة بحاجز مقدس، يمنع الشياطين وجن الكارما من التسلل إليها. وتوضح هذه الفكرة من خلال قراءة “شون”، وهو أحد أفراد مجموعة “ساكي”، قصة يافع عاش قبل 180 عاماً، وكبر ليصبح رجلاً. ولأنه كان معتزاً بذكائه لم تلمس الدروس قلبه، فبدأ الفخر في زرع بذور الكارما السيئة. وساهمت العزلة، التي كانت صديقته الوحيدة والمخلصة، في جعل البذور فاكهة، وبالتالي، نضجت الكارما الخاصة به على نحو منحرف، مسقية بأفكاره الخاصة. وكنتيجة لذلك اتخذت كارمته سبيلاً لولبياً خرج عن السيطرة، ففقد في النهاية كل إنسانيته، وتحول الى “شيطان كارما”. وحين أدرك أن وجوده يمثل أسوء شيء في العالم الجديد أغرق نفسه في النهر.
يتكفل مغادرة جدران الأكاديمية لليافعين بالتعرف على كائنات ذكية مشوهة تدعى “جرذان كوي”، تستخدم للمساعدة في بناء القرية، ويتم التحكم بها بواسطة “الكانتوس” كالعبيد. لذلك، يتحتم إبعادها عن الأطفال الذين لا يملكون “كانتوس” خاص بهم. ولأن “ساكي” كانت ماتزال مؤمنة ببراءة فقاعة الصابون فإنها تنتشل جرذاً يسقط في النهر، وتنقذه من الغرق باستخدام “الكانتوس”، وبدون إذن من اللجنة الأخلاقية الناظمة لشؤون المجتمع المثالي.
لكنها تتلقى شكراً من الجرذان بوصفها من الآلهة، فتلاحظ دمغاً رقمياً على جسد الضحية يشير إلى انتمائه لعمال مستعمرة عثة الماعز. وتستقي هذه الفكرة مصداقيتها التاريخية من التراتبية المعرفية القديمة، التي تضع الإنسان الألصق بالعلم في مرتبة “الألوهية ـ السيادة” قياساً إلى الأدنى منه في السلم التطوري.
“المينوشيرو” الأرشيف ذاتي الحركة
تنظم رحلة للطلاب في الطبيعة، لدفعهم نحو استكشاف ماهيتهم الداخلية، وطريقة تفاعلها مع البيئة المحيطة بهم، كأول مغادرة لجوار القرية المألوفة لهم، وبالتالي قذفهم في أتون الاستقلالية النسبية، من أجل دراسة استجابتهم للتحديات، وآلية اتخاذهم للقرارات. وبسبب خلفية غامضة ترتسم في أذهانهم حول طريقة اختفاء صديقتهم “ريكي”، يتقصون بالدرجة الأولى الوصول إلى معلومات حول “القطط المقلدة” و”كلاب الكارثة”. وتلوح أمام اليافعين فرصة لاقتناص بعض الإجابات من خلال القبض على “مينوشيرو”، وهو كائن طاقي يأخذ شكل حصان البحر الصغير، يمثل مكتبة متحركة، وأرشيفاً ذاتي الحركة، حفظت فيه كل المعلومات بحجم 980 بيتا بايت في الذاكرة المجسمة (DNA).
يفترض مؤلف “من العالم الجديد” أن سقوط الحضارة منذ ما يقارب الألف عام، وتحديداً في عام 2011، جعل أشكال الحيوانات في المنطقة تتغير بشكل كبير. فأصبحت مئات الأصناف بما فيها “المينوشيرو” تتجسد من الهواء الدقيق، أي تبرز من العدم، كنتيجة مباشرة لتسرب “الكانتوس” من طبقات العقل البشري اللاواعي. لذلك، وعند مشاهدتهم لـ”المينوشيرو” في الغابة يبهرهم الضوء الساطع عنه، وينجح في شل حركتهم وتنويمهم مغناطيسياً، كما حصل لهم عند مشاهدة اللهب في معبد النقاء. ويبدو الأمر مماثلاً لحجب الذاكرة السابقة عند دخول النفس في التجسد، المطابقة لحركة انتزاع “الكانتوس” عند المتدرب.
يعود مصطلح “شياطين الكارما”، التي تدمر العقل والروح، إلى قاموس الحضارة الإنسانية الآفلة، ويمكن إحالته على أولئك الذين عانوا من متلازمة “رامان- كلوغيوس” المعروفة بـ”الثعلب في قن الدجاج”. ويتنبأ المؤلف “كيشي” بوجودهم في المستقبل القريب استناداً إلى التجارب البيولوجية، التي أجريت من قبل علماء الإدراك اليابانيين، بعد تقبل العلم لمفهوم غرابة القوى الخارقة للطبيعة، والذي جعل البشرية تندفع نحو إيقاظ قواها الكامنة. ويبدو أن أسس هذه الأبحاث يستند إلى نواة حقيقية على أرض الواقع، فقد كشفت التحقيقات عن قيام العلماء اليابانيين، إبان الحرب العالمية الثانية، بإجراء التجارب البيولوجية والكيماوية، على الأسرى الصينيين في إقليم منشوريا المحتلة من قبل الجيش الياباني.
ويفترض “كيشي” في روايته أن مستعملي هذه القوى بدأوا يتزايدون تدريجياً بشكل كبير، حتى أصبحت نسبتهم تقارب 0.3% من مجموع عدد السكان. ومع أنهم كانوا في مرحلة الايقاظ فحسب إلا أن قواهم الكامنة المدمرة كانت قادرة على عرقلة النظام الاجتماعي المعاصر. وهو التفسير الذي يورده “المنيوشيرو” لانفلات العنف في المشاهد الأولى للمسلسل، والتي جسدت فتى يخترق الجدران بفعل هذه التقنية ليغتصب النساء أثناء نومهن، وينجح في خلق فتنة غير مسبوقة. وهذه الصدمة في مواجهة العنف والقتل غير المسبوق في حياة اليافعين المنتمين إلى القرية النموذجية يحرك مزيداً من الأسئلة، إضافة إلى ولادة الخوف والشعور بالتهديد.
ما قبل المدينة الفاضلة
يستعرض “كيشي” عبر “المينوشيرو” مجموعة العوامل النفسية والاجتماعية والبيولوجية، التي هيأت لبلورة مفهوم المدينة الفاضلة، عبر خمسمئة عام أعقبت حادثة انفلاش العنف في عام 2011. فمع تطور قدرات الناجين السريع ينخفض عدد السكان بنسبة 4%، وتتضاءل المجموعات البشرية في شمال شرق آسيا إلى أربع مجموعات متنافسة خلال الخمسمئة عام الماضية المظلمة. وتظهر الصور التي تعرضها شاشة “المنيوشيرو” عن تلك الحقبة شعباً يترقب بلهفة ظهور إمبراطور البهجة، الذي سلب الحكم من إمبراطورية تفتح أزهار الكرز المقدسة، فيما يعلن مهرج أن المئة الأولى من الناس، التي تتوقف عن التصفيق سيتم التضحية بها لأجل جلالته. وتمثل المجموعة الأولى الإمبراطوريات المُستعبدة التي حكمت من قبل سيد القدرات الخارقة، التي يرمز لها اختصاراً بـ” بي كي”، بينما تشكل المجموعة الثانية تجمع الصيادين الفاقدين لخاصية تلك القدرات، والذين أرادوا الهرب من تهديد الإمبراطوريات. وتضم الثالثة قطاع طرق يستخدمون الـ”بي كي” للنهب والقتل، فيما تشمل الأخيرة العلماء الذين ابتغوا حفظ كل المعرفة القديمة من الزوال، فحرصوا على تطبيق نمط التسجيل الكتابي للوثائق والأحداث.
ينتهي هذا العهد بتضاؤل عدد مستخدمي الـ “بي كي”، وتزايد الحروب، فيقتنص العلماء الفرصة لفرض نظام المدينة الفاضلة، المبنية على التراتبية الأخلاقية والفكرية. وقد انصب هدف العلماء، الذين اتخذوا سابقاً دور المراقبين، على دراسة القوى اللامتناهية لـ “بي كي” ومنع دمار الإنسان، وإظهار أهمية التربية في بناء المجتمع السليم، ومن ثم دراسة التأثير النفساني. وخلال السنوات الخمسمئة اللاحقة حافظ العلماء على نشاطهم وفعاليتهم، لكنهم ظلوا بعيدين عن الكمال. وفي هذا السياق أثبتت الاختبارات النفسية والشخصية أنه يمكن، وبدقة مثالية تقريباً، تصفية الأطفال الذين من المحتمل أن يخرقوا القوانين. وبعد ذلك انصب اهتمامهم على دراسة “الإيثولوجيا”، وهي علم السلوك الحيواني، ودارت أبحاثهم حول مجتمعات الـ”بونوبوس”، وهي مجتمعات القرود الخالية من النزاعات والفتن، بسبب لجوء أفرادها إلى تصريف فائض القلق والإرهاق فيما بينها إلى السلوكيات الجنسية الحميمة، وهذا ينطبق على البالغين من الإناث والذكور..
كان مجتمع من مستعملي الـ “بي كي” يتجه نحو الهاوية في حال لم يتم السيطرة على مسارات العنف والتحكم بها. وقد تمثل الحل في طريقتين؛ التغيير الجيني المقارب لوحدة التحكم الذاتي المشابهة لتلك الموجودة عند مجتمع الذئاب على سبيل المثال، وتطبيق طريقة “الموت العكسي” التي تعتمد على مبدأ التزامن بين إدراك اللاوعي لحقيقة محاولة المُستعمل إيذاء بشري آخر، وتحويل استخدام الـ”بي سي” خاصته لإيقاف الوظائف الحية وأنشطة الغدد الدرقية، والمترافقة بأعراض من عدم الراحة والتعرق. ويمكن لهذه الخاصية أن تتقوى أكثر بالتربية والاشتراط والتنويم المغناطيسي. وقد لاحظ العلماء أن أغلب البشر يمكنهم إيقاف هجومهم في تلك اللحظة عند مواجهة التهديد والعدائية، لكن في حال عمدوا إلى تبني عدوانيتهم فإنه تبرز لديهم حالة تدعى الاختناق الكزازي الناتج عن انخفاض مستويات الكالسيوم في الدم، ويمكن أن يتوقف القلب نظراً للارتفاع المفاجئ في تركيز البوتاسيوم، مما يمكنه أن يتسبب في مقتلهم…
يوقف كاهن متقاعد تدفق المعلومات من “المنيوشيرو”، ويحرق المكتبة لحجب المعلومات عن الصبية الفضوليين، فتظهر هيئة أم تحمل وليدها. ثم يختم “الكانتوس” خاصتهم تمهيداً لمسح الذاكرة المستحدثة من استعادة التاريخ المغيب، من جهة، وبروز تساؤلات غامضة عن ماهية العدو الحقيقي، من جهة أخرى. فتساعدهم “ساكي” على استعادته عبر تقنية التنويم المغناطيسي.
كلاب الكارثة والقطط المقلدة
يقترب فتية المجموعة من معاينة ثنائية “السيد ـ العبد” من خلال مشاهدة فئران الكوي، التي كانت تستخدم كعمال سخرة في بناء القرية. وحين يسقط أحد تلك الفئران في النهر تنقذه “ساكي” بواسطة “الكانتوس” خاصتها، فيلقبها بالآلهة. ويساعدهم على العودة إلى المعسكر كائن منتصب على ساقين، يحمل مواصفات هجينة متأتية من مزج جينات البشر بالحيوانات، يدعى “الجنرال”، يقود مستعمرة هورنيت الأضخم من حيث العدد والولاء للبشر.
ومع أنهم كانوا أطفالاً في الثانية عشرة من عمرهم، بميول جنسية طبيعية، إلا أنهم بعد عامين تتغلب عليهم الميول المثلية تجاه زملائهم من نفس المجموعة؛ “ساكي ـ ماريا”، “شون ـ ساكوري” ويبقى الخامس “مامون” متفرداً لوحده بلا شريك. ويظهر تفوق “شون” على أقرانه، ويغدو مؤهلاً ليخلف الكاهن الأعلى، المتحكم الأقوى بـ”الكانتوس” خاصته، والذي ظل يتابع تدريبات “شون” حتى انكفائه التدريجي على ذاته. وفي هذا الصدد يستعيد المؤلف تأثيرات العزلة على صيرورة التجربة الإنسانية في مدارك سعة العقل وطواعية النفس كحجاب في الاستجابة بمرونة للتجارب المصيرية. ويوضح بشكل غير مباشر، من خلال شخصية “شون” وتحولها إلى “شيطان كارما”، تبعثر الطاقة الحيوية المنفلتة عن إسار الضبط الأخلاقي المتحكم بمسارات “الكانتوس”.
كان “شون” طفلاً عبقرياً، لكن ارتسمت في سجله نقطة واحدة معتمة، تمثلت في الوحدة، التي كانت صديقه الأوحد. ودون علمه بدأت “الكارما” الخاصة به بالخروج عن السيطرة شيئاً فشيئاً، متحولاً إلى “شيطان كارما”، وهؤلاء لا يمكن السماح لهم بالمشي فوق سطح العالم الجديد. لذلك، تصبح قرية الصنوبر التي يعيش فيها منطقة معزولة محاطة بحاجز مقدس، ومع اختفاء كل الطلاب من نفس القرية، يتم إخراج قطتين مقلدتين من الأوعية الفخارية الخاصة بها، من قبل لجنة الأخلاقيات، وترسل إلى القرية الصغيرة للقضاء على “شون”. فترتحل “ساكي” إلى هناك وحدها، وتضع في رقبتها طوقاً صنعه “شون” قبل اختفائه، ليحميها من القطط المقلدة. وخلال الصراع بين الصبية والقطة يتراءى واضحاً التأثيرات المدمرة لتداخل مساري الطاقة، وبروز المصابين بالطفرات في كل مكان من القرية المهشمة بفعل اندياح كارما “شون”، الذي يمشي بجسده نحو قعر البحيرة، قبل أن توقفه “ساكي”.
انفلات الطاقة، شياطين الكارما
يخصص “كيشي” لشخصية “ساكي” مساحة واسعة في المسلسل، إذ تتمحور حولها الأحداث والمواقف، بشكل يؤهلها لاحقاً لاتخاذ زمام المبادرة في تعيين الأفكار والانطباعات إبان المواقف واللحظات الحرجة. ولذلك، تسعى بمفردها لمحاولة إنقاذ “شون” من موته المحتم، رغم تحذيرات أمها المنذرة بحتمية تقبل فقدان الأحبة. ولكن “ساكي” تفشل في مهمتها السامية، المتكئة على حب خفي لم يجد فرصته الصحيحة للنمو والإزهار. ولا يتبق أمام اليافعين سوى محاولة أخيرة لفهم ما يحدث، تمهيداً لتقبل قانون الغياب المادي، المتحكم بمسارات التجربة العاطفية الإنسانية، وهو ما يفترض به أن يستثمر كإدراك معرفي يصب في متاهة الكارما والخيارات المؤطرة للسلوك البشري.
تخرج من “شون”، الذي يخفي وجهه بقناع، دفقات طاقية متموجة، فيُبرز أمامه مجسمات الزنبور، وهي كرات تشبه الأزار الخشبية الكبيرة الملونة، ويركز عليها كي لا تنفلت منه الطاقة وتصبح مدمرة لكل شيء حولها. ويشرع في شرح الظاهرة الطاقية لـ”ساكي” بعد أن يرد أصل كل المشاكل إلى قلب الإنسان؛ فالنفس الواعية هي مجرد قمة جبل جليدي، أما الجزء الخفي منها، غير الواعي والكامن تحت الماء فعظمته لا تضاهى. وبغض النظر عن مجهودات الإنسان فإن البشر لا يمكنهم التحكم كلياً في أفكارهم وأحاسيسهم، وتحديداً بالجزء اللاواعي، الذي يمتلئ بما غير متنبأ به، وما الـ “كانتوس” خاصتهم إلا أكبر مظهر مادي لهذا.. وفي حالة الأفعال الجسدية هناك عدة مراحل بين واقع البداية وتأثير النهاية، لكنها تحتاج أن تجتاز الجزء الواعي قبل أن تحظى بإمكانية التجسد، بالرغم من أن الحافز الأساسي هو إنتاج للجزء غير الواعي من الإنسان. ومع أن المبرر البشري بإمكانه تصحيح أو إيقاف واقعة بشكل كلي ومنعها من الحدوث، الا أن “الكانتوس” يعمل بشكل مختلف، إذ يمكن اعتبار استهلال وإتمام واقعة متزامنين عملياً، وبالرغم من أنها قد تكون الواقعة الخاطئة، إلا أنه ليس هناك وقت لتصحيحها.
وهنا يبرز سؤال على لسان “ساكي” حول ارتباط استعمال “الكانتوس” بتصوير أشياء معينة.
وفي معرض الإجابة يعقب “شون” بأن بعض الصور الذهنية تكون متصورة بشكل واضح وشعوري، بينما البعض الآخر يقبع محجوباً في الظلمة واللاوعي، دون أن يدرك أحد هذا. والبشر يغيرون العالم من حولهم بنزوة لاوعيهم، فهي تنسل من بين الثغرات المنفرجة عن طريق اللاوعي الخاص بهم بشكل متزامن، رغم السيطرة على “الكانتوس”. بالمقابل، يتم خلق ما يُسمى بـ”الحاجز المقدس”، وهو حقل طاقي رادع لقوى الإنسان، من أجل وقايته من التهديدات الداخلية وليس الخارجية، فـ”الكانتوس” المنفلت بشكل متزامن يعتبر “شيطان الكارما”، عفريتا، أي أن البشر يخافون جوهرياً مما هو منبثق منهم. ومع أن طاقة “الكانتوس” المنسلة من البشر ضعيفة بشكل عام، وبالتالي لن تخرب العالم بين ليلة وضحاها، لكن في حال تتابعت الأفكار والخواطر بالتكدس والتداخل فيما بينها لمدة زمنية مطولة، فلا يمكن توقع النتائج عندئذ، وهذا يعني أنه لابد من توجيهها إلى الخارج.
يورد المؤلف في هذا السياق فكرة مهمة جداً تتعلق بغريزة الدفاع عن الذات وصيانتها؛ فمنذ طفولة الإنسان يجبل على التكيف مع الخوف من العالم الخارجي، والتوحد مع الظلم داخل نفسه، والتقوقع داخل لاوعيه.. وبهذا الربط للاوعي مع العالم الخارجي فإنه يوجه بضع انسلالات إلى خارج الحاجز المقدس، الذي يشبه عملياً تعويذة مطلوبة لتطهيره. وخارج هذا الحاجز يولد انسلال “الكانتوس” أشكالاً، منها على سبيل المثال أسلاف “الـمينوشيرو”، المشابهة لـ”حلزون البحر”.. أما في حالة الانفلات العظيم لـ”الكانتوس” وفقدان السيطرة الكلية على اللاوعي، كما في حالة “شون”، فإن أشكال الكائنات الحية إضافة إلى البيئة الطبيعية المحيطة تتعرض للتشوه. ومع أنه يتناول الحبوب المسمومة للانتحار، لكن رغبة اللاوعي في النجاة تعدل الجزيئات تلقائياً. لكن، في النهاية تأتي روح “المباركة”، فتمنح “شون” الموت بدل البركة، فيتهشم قلبه..
القائد في المدينة الفاضلة
تتعرض المجموعة بأسرها لمسح الذاكرة، فيما يخص وجود “شون” بينهم، ويغدو من الصعوبة استعادة ملامحه، فيقتحم أحلام “ساكي”، التي تعود الى علاقتها المثلية مع “ماريا”. وبالتالي، يرتسم الحب المتبادل بين الشاب والفتاة مع وقف التنفيذ، لأن الفترة الماضية فرضت بشكل غير مباشر نوعاً من العلاقات المثلية. ورغم الضبابية في ذاكرة الفتية إلا أنهم يقمون برحلة الى المنطقة التي أحسوا أن صديقهم ذاب فيها، لكنهم لا يجدون شيئاً. وتطفو على السطح بوضوح قوة تحمل “ساكي” للحقيقة، وتعاملها بحزم مع اختفاء شقيقتها الكبرى، بينما يظهر “مامون” على النقيض منها، هشاً ضعيفاً يملأه الخوف، ويدفعه للتواري بعيداً بعد رؤيته لقط مقلد يتعقب آثاره. بالمقابل، تستدعى “ساكي” لمقابلة “توميكو”، رئيسة اللجنة الأخلاقية، لتبحث معها أمر تهيئتها كخليفة لها في المستقبل، لكونها تملك صفات القادة، كالتماسك أمام الصعوبات والمشكلات، واحتفاظها باستقرار ذهني، ويقظة متحررة من الانفعالية العاطفية، دون أن يطرأ أي انخفاض على نتائجها، حتى إبان اطلاعها على حقيقة التاريخ الدامي للبشرية، من خلال “المينوشيرو”. بالمقابل، الزعيم لا يمكن تنويمه مغناطيسياً، ويحتاج إلى تقبل كل من الخير والشر على حد سواء، ولديه إيمان واستعداد بما يكفي للقبض على الأيدي القذرة، وهي صفات موجودة لدى “ساكي”..
تناقش الرئيسة “توميكو”، التي تمثل أعلى سلطة أخلاقية في المجتمع المحكوم بالمثالية الأفلاطونية، مع “ساكي” الفرق بين الجن وشياطين الكارما، من حيث التعامل مع العنف المفرط. وتسوق حادثة الطالب “كي”، الذي تحول إلى شيطان الكارما، مثالاً على ذلك، وهي حادثة تسببت بانفلات عنف هائل، متفجر بالوحشية، رغم كون الطلاب مقيدين مسبقاً بحواجز ذهنية قوية، تطال العنف والتغذية المرتجعة للموت الخاصة بهم. وهو أيضاً ما كبل إرادتهم في اللحظات الحرجة من معاينة مفاجئة للقسوة المفرطة، مما جردهم من تلقائية الدفاع عن أنفسهم، فمات مئة شخص في المنطقة على يد “كي”. وبالمقارنة مع الجن، الذين ليس لديهم حواجز ضد العنف والقتل، فإن شياطين الكارما يهاجمون ويقتلون من حولهم وقائياً، مسيرين بفكرة الخوف من أن تتم مهاجمتهم. وثمة نظرية أخرى تذهب إلى افتراض أنهم يصبحون ثملين بالـ”أندروفين” في أدمغتهم، وهي مادة موجودة في الجهاز العصبي للبشر والحيوانات، مهمتها تخفيف الألم، كما أنها تعطي شعوراً بالراحة والنشوة، وعندها لن يغدو بإمكانهم التوقف عن القتل بسهولة، لهذا سميت هذه المتلازمة بـ”الثعلب في قن الدجاج”. وعند الوصول إلى هذا المنحى تكون الشاشات قد عرضت مشاهداً لـ”كي” وهو يفصل رأس الطبيب المشرف على علاجه، قبل أن يموت.
ولتفادي تكرار هذه الحادثة عمدت السلطة الأخلاقية إلى إبادة كل من يشتبه بأن لديه قوة كامنة، اتقاء لظهور جني آخر. وفي نفس الوقت، أصدروا أومر لأقوى محاربي المستعمرات المخلصة من فئران الكوي بالتخلص من المشبوهين، وهي استراتيجية كل شيء أو لا شيء. ورغم أن الأمر تم بنجاح، لكنه لم يقدم ضماناً كافياً. لذلك، مددت صلاحية دستور الأخلاقيات القديم، الذي اعتبر أن حقوق الأنسنة توهب للطفل اعتباراً من عمر 22 شهر من تاريخ الحمل به، لتصبح في دستور الأخلاقيات الجديد موافقة لبلوغه العام السابع عشر. وحتى ذلك الحين تمنح السلطة الأخلاقية لجنة التدريس صلاحية التخلص منهم حتى بلوغهم عيد ميلادهم السابع عشر. لكنهم يبتكرون طريقة أفضل من أجل التخلص منهم، باستعمال القطط المقلدة، التي كانت تتناسل انتقائياً، باستعمال “الكانتوس”، من القطط المنزلية العادية.
وبعد مرور عشرين عاماً تثبت فتاة ذات مظهر لطيف خطأ نظرياتهم، إذ كان “الكانتوس” خاصتها يلوث كل شيء حولها. فترسل لجنة التدريس والأخلاقيات محققين لتقصي حقيقة الأمر. وتظهر تحقيقاتهم أن “السكب” السيء لـ”الكانتوس” يمكنه أن يدمر حتى الحمض النووي للإنسان. وعلى عكس الجن، فهم لا يستطيعون التحكم إطلاقاً بالتسرب الخطير لـ”الكانتوس” خاصتهم. وكان مجرد التعاطف العفوي في حالة الفتاة يتسبب في تغيير جينات أهلها، وبالتالي موتهم. ولذلك، تمسح الذاكرة الخاصة بـ”شون” ويستبدل بطالب آخر يسد الفراغ المتخلف عنه في المجموعة. فالسلسلة البشرية يجب أن تبقى قوية ومتماسكة بمدى حلقتها الأضعف، ولابد من مراعاة الجميع لأن أي خلل يستتبعه سقوط البقية، كأحجار الدومينو. ولكن “شون” المُغيب يلح على حضوره الطيفي في ذاكرة “ساكي”، دونما ملامح مطالباً إياها بمعرفة شكله.
تهرب “ماريا” مع “مامورو”، الكائن الهش الذي يمثل الحلقة الأضعف بينهم، و يختاران العيش بعيداً عن المدينة، لبدء حياة جديدة خارجة عن سيطرة اللجنة الأخلاقية، بدل الموت، وهذا يجسد ثمرة للتفكير الحر. لكن هذه الأفعال تعتبر خطرة وتهدد سلامة المدينة على المستوى الأساسي، لذلك، تستدعي “توميكو” “ساكي” وتطلب منها استعادة الفارين خلال ثلاثة أيام، وإلا ستتكفل مستعمرات الكوي بقتلهما، بعد تلقيها الأوامر بذلك.
مصادر القوة الداخلية
يطرح المؤلف تساؤلاً هاماً عن ماهية مصادر القوة الداخلية للرئيسة “توميكو”، وهل تستمدها من الأساليب القديمة للحكم، كالخوف المتأتي من العنف المباشر، أو من الثروة، أو السيطرة على العقل من خلال غسل الدماغ، التي كانت تستخدم للحصول على القوة. ولكن “توميكو” لم تستطع الحصول على أية واحدة منها، لكونها شخصاً عادياً، فلم يتجوز تصنيفها المتوسط بين الطلاب. لكنها حظيت بموهبة واحدة تمثلت في عامل الوقت، فقد عرفت كيف تكسبه، فطال عمرها حتى بلغ 267 عاماً، وحافظت على منصبها كرئيسة مجلس الأخلاقيات لمدة 170 عاماً، بفضل موهبتها في ترميم الحمض النووي. واستند هذا الترميم على حقيقة واحدة تقضي بأن الصورة تحتاج إلى أن تكون في الحسبان عند استعادة الحمض النووي، وهو نفس المبدأ المستخدم عند تحديد شكل الفخار المكسور.
المسخ والانفصال عن المثال
أثناء رحلة البحث عن “ماريا” و”مامون” تتعرف “ساكي” إلى التغييرات الطارئة على مستعمرة فراشة الذبابة، التي تمثل شكلاً متدنياً في السلم التطوري سابقاً للإنسانية. لكنها تلاحظ تقيد الملكة الأم وحجرها للحفاظ على سلطتها الروحية، وتسمع أقوالاً من زعيمها “سكويلار” تشي بالارتداد عن عبودية نظام المُثل الأفلاطوني، إذ يتشدق فأر الكوي بالفكرة الديمقراطية وحتمية المساواة بين البشر، وقيادة حياة قائمة على التكامل بين الجنسين.. ويعمد إلى ارتداء درع الساموراي، وتقديم نفسه بوصفه قائداً للجيش، فيظهر سلوكه التسلط والعنف والقسوة تجاه الأضعف منه، كما يبرر سياسة الاحتفاظ بالملكة المقيدة بقضية التناسل. ويستند في مبادئه إلى كتاب من الحضارة الإنسانية البائدة، وبشكل خفي يعيد طرح السؤال الأزلي من هم “الأسياد ـ الآلهة”. بالمقابل، تغلق قضية الهاربين بالاتفاق مع “سكويلار” على احضار عظام ميتين، وتقديمها إلى لجنة الأخلاق على أنها عظام “ماريا” و”مامورو”.
حروب المستعمرات
بعد مرور اثني عشر عاماً على اختفاء “ماريا” و”مامورو”، تدخل “ساكي” عامها السادس والعشرون، ولا يتبقى من مجموعتها الأصلية إلا “ساتورو”، حفيد الرئيسة. وتصبح مسؤوليتها الفعلية استجواب وتنظيم فئران كوي، في إدارة ومكافحة “الاكسوسبيس”، وهو التطبيق التحويلي الخاص بالحيوانات، إضافة إلى ضبط قواعد شن الحروب بين المستعمرات، لتنظيم أعدادها، ومنعها من التضخم والانفجار السكاني. وبينما يطلق على الأسياد اسم “آلهة” يحمل العاملون في قسم مكافحة الآفات لقب “آلهة الموت، الحصادون”، أسوة بـ”ارغو بروكسي”. ويأتي وقت تتقاتل فيه المستعمرتان الأساسيتان بين بعضهما البعض وفق نمط الدويلات اليابانية المتحاربة قديماً، بناء على حادثة مفتعلة، ويستدعى كلا الطرفين، “سكويلار” و”هورنيت” للمثول أمام السادة..
وبينما يحلم “سكويلار” بتحويل العالم إلى دكتاتورية الديمقراطية، وبناء إمبراطورية الكوي العظمى، يتمسك “هورنيت” بالنظام “الملكي ـ الأمومي”. وتحت ذريعة هذا الاختلاف الوهمي يتقاتل الجيشان، فيما يشاهد الأسياد تفاصيل الاقتتال بين الطرفين. وينتشر خبر عن تعاطي محاربي مستعمرة “هورنيت” العملاقة للمنشطات، بغية قمع خوفهم واستثارة نوازعهم الدموية الوحشية، تحت مسمى ولادة الجنود الحقيقيين. وهذه الصورة المتحركة تجسد تطبيقاً جيداً لـ”قوة الغضب” عند أفلاطون، والتي تمثلها طبقة المحاربين، وتقابلها “قوة النطق” عند طبقة الفلاسفة والحكماء. لكن، وفيما تتصاعد نشوة الظفر لدى جنود “هورنيت”، عقب سحقهم لأعدائهم خلال ساعة، يتبين أن انسحاب الفئران المفاجئ لم يكن سوى مناورة خبيثة لسحق جيش “هورنيت” العملاق وإبادته كلياً. وهذا المكر في إدارة الحرب والجبن الذي ينطوي عليه، يثير سخطاً لدى الأسياد، فيصدرون قراراً بتصفية فئران الكوي.
تنتقل المعارك بين الأسياد والفئران إلى مستويات أعلى، تعكس زخم الكراهية المتفاقمة عند الفئران، وممارستها لفعل القتل بشكل واع ومدمر، كتناسل مباشر عن ثنائية “الجلاد ـ الضحية”. فالفئران، التي نجحت في أسر “ماريا” و”مامورو”، تستنبط طريقة مبتكرة للدفاع عن ذاتها الإنسانية المجهضة، من خلال تربية طفلة الشابين، بعد قتلهما وتسليم عظامهما للجنة الأخلاقية. وبعد مرور اثني عشر عاماً تصبح الفتاة أداة لتفريغ الأحقاد والكراهية المهدهدة طوال ألف عام في سلالة فئران الكوي. وبعد تفاقم الفوضى والدمار في جنبات المدينة الفاضلة، يعمد الفئران إلى خطف الرضع البشريين من الحاضنات الاصطناعية، ليصنعوا منها جيشاً من الشياطين لتدمير طغيان البشر..
وبالعودة إلى النهج الأفلاطوني، الذي طبقت فيه المساواة بين الجنسين، وأقرت مشاعية الأولاد، ومنحت المشاعية الجنسية لطبقة الحراس (الجند والحكام)، وحرمت الملكية بينهم، لتخليصهم من كل ما يمكن أن يعوق تنفيذ مهامهم على أكمل وجه. وحمل برنامج التربية الخاصة بالجند توجيهاً ينص على إلزامية التدريب حتى سن الثامنة عشرة، مع السماح بالدراسة للمتميزين حتى سن الثلاثين، ودراسة الفلسفة للمتميزين منهم حتى سن الخمسين، كي تتاح القيادة للأكثر تميزاً، بينما يظل البقية في طبقة الجند. بالمقابل، طبق المؤلف هذه الفرضية في نسخته من المدينة الفاضلة، عبر تبني الحفاظ على تفوق الجنس المثالي، المتمثل في المسلسل بنزعة التأله لدى طبقة “الأسياد ـ الآلهة”، التي تحتفظ بحق الاقتصاص من العبيد، الذين ينتمون بدورهم إلى فصيلة الذكاء العالي، ويمثلون بسكان المستعمرات المكرسين لخدمة السادة. لذلك، تم تحويل البشر ذوي القدرات العادية إلى فئران كوي بعد حقنهم بالحمض النووي لفئران الخلد، كمنهج نفسي للتغلب على الشعور بالندم تجاه فعل المسخ.
كهف الظلال الأفلاطوني والميسيا المنتظر
مرت رحلة التذكر بين جنبات المدينة الفاضلة ضمن مستويين متقابلين، واقترنت تبعاً لذلك بإرادة شخصيتين محركتين أساسيتين؛ ابنة “ماريا” وهي أداة الانتقام المُثلى من امتساخ الإنسانية، و”ساكي” المجسدة لصفوة المجتمع المثالي. ولأن ابنة “ماريا” رُبيت بوصفها أحد فئران الكوي، وباعتبارها كائناً أخرس جاهلاً بأصول منبته الإنساني، الذي تعبر عنه اللغة في اكتمال نضجها وبلوغها عتبة الإشراق الفلسفي، تحتم عليها أن تنظر عنوة إلى المرآة، لتدرك اختلافها، فتتوقف عن أعمال التوحش والعنف، بوصفها ربيبة الأحقاد والكراهية المتناسلة في نفوس المذلين والمهانين. أما “ساكي” فكان عليها أن تتذكر “شون” وتستعيد ملامحه عبر الدخول إلى كهف مظلم يعج بمختلف أنواع الكائنات المرعبة، التي شكلها انسلال “الكانتوس” من القتلة والضحايا عقب دمار الأرض بفعل الحروب، وهذا الكهف المستنسخ عن كهف الظلال الأفلاطوني يجسد الأنفاق الواقعة تحت أطلال وبقايا مدينة طوكيو اليابانية. وبالتالي، تُجلي هذه الرحلة ماهية “الكانتوس” الحقيقية، بوصفه القدرات الخاصة لتناسخ الأجساد، مما يجعل منها القوة التي تحفر أفكار البشر إلى العالم الخارجي، وتطبعها بصمة لتلك الأفكار، لتغدو الأرواح في النهاية هي الأفكار ذاتها. مما يجعل جزءاً من روح “شون” محفوراً عميقاً في قلب “ساكي”، ودليلاً يقودها نحو الحياة الإنسانية الطبيعية، المتاحة في إطار القبول بشريكها “ساتوري” زوجاً لها.
في النص الروائي “من العالم الجديد” تحمل ابنة “ماريا” اسم “ميسيا”، الذي يوافق “المشيح” في اللغة السريانية، كما أن جنس الطفل الحقيقي يكون مذكراً، في إشارة واضحة من المؤلف إلى المسيح المنتظر، الذي سيعد في القصة التوراتية لم شمل اليهود إلى موطنهم من أرض الشتات. لذلك، أُسقطت هذه الحقيقة من المسلسل، وأُعطي للمخلص المشوه جسد فتاة جميلة شرسة، ذات شعر ناري أحمر، كما تم حرمانها من الاسم لتظل وجوداً غير مكتمل، أضاء ظلمات المدينة الفاضلة وانتهاكها لشرطية الوجود الإنساني على كوكب الأرض، المحكوم بتناسل الثنائيات المتضادة؛ “الخير ـ الشر”، “الحياة ـ الموت”، “الحب ـ الكراهية”، “الثواب ـ العقاب”…. مما يجعل الحقيقة نسبية، تتأرجح بين الجهتين طالما بقي النوسان بين الأقطاب قائماً.
نُشرت في مجلة الأدب العلمي عدد ٥٦ – نيسان ٢٠١٨
اقرأ أيضاً:
أهلاً ، جميل جدًا المقال ، لكن ياريت تضعون روابط للحلقات بترجمة من توصيتكم كالعادة
حتى مانشغل أنفسنا بالبحث عن ترجمة مناسبة وقد لا نجد ترجمة تصل للمستوى المطلوب
قمنا باضافة روابط للترجمة بإمكانك مشاهدتها، الترجمة ممتازة جداً
يعطيكم العافية على المقالة الرائعة
لكن كان بودي لو انكم قمتم بشرح بعض الجزيئات من الانمي ، مثل لماذا لقت ميسيا حتفها عندما قتلت هورنت ، ولماذا يمكنها أن تؤذي البشر بالقوة الباطنية ، حيث انه ذكر في المسلسل ان هذه القوة لا يمكن استخدامها ضد البشر