لطالما كان الإلهام عنصر أساسي في صناعة الأفلام، فمن النّادر أن تمرّ على فلمٍ مبتكر بشكل كامل، لكن للتشابه درجات وقد تتزايد لتصل إلى مرحلة أحب أن أسمّيها “الوريث الروحي” فتُستخدم الطرق نفسها لبناء العمل ونقاش مواضيعه المتشابهة. بالرغم أنّ هذا ليس علامةً لسوء العمل أو جودته فتسليط الضوء على نقاط التشابه والإختلاف يسّهل علينا فهم العملين وتوضيح فكرتهما ورسالتهما، وهذا ما أريد نقاشه اليوم مع الفلمين Black Swan و Perfect Blue.
فلم المخرج دارن أرنوفسكي “Black Swan” يعتبر الوريث الروحي لفلم المخرج ساتوشي كون “Perfect Blue”. بالرغم من إنكار أرنوفسكي لهذا فالتشابه وصل لمرحلة غير قابلة للجدل واستخدام المشاهد الإخراجية المقتبسة مباشرة من فلم Perfect Blue دليل كبير على هذا. لكن بغض النظر عن أيُّ الفلمين اقتبس الآخر فما هي المواضيع التي يناقشها كلا الفلمان وما هو الإختلاف الموضوعي بينهما؟
الفكرة العامة لفيلميّ Perfect Blue و Black Swan:
الصعوبات التي يواجهها الفنانين كان الإطار العام للعملين، فالشخصيتان الرئيسيتان “ميما”(من Perfect Blue) و”نينا”(من Black Swan) يملكان عملاً يتطلّب موهبة ولا يمكن إنجازه بمجرد العمل الشاق (الغناء/التمثيل ورقص الباليه) . هذا العنصر مفتاح أساسي لما سنواجهه في الفلمين، فانعكاس الضغوطات التي تواجهانها في حياتهما الشخصية سيؤثر مباشرة على عملهما ونظرة الناس لهما والعكس صحيحٌ تماماً. تلك الضغوطات التي ستسبب توتّر هائل في الشخصيات لدرجة الإنفصال عن الواقع والهلوسة التّامة التي شاهدناها في النصف الثاني من الفلمين بوضوح. أفضل طريقة لمناقشة هذا سيكون بالتركيز على الشخصيتين الرئيسيّتين.
العامل المسبب للتوتّر:
في Black Swan واجهت “نينا” صعوبات كبيرة جداً لوصولها لتلك الدرجة العالية التي يقف عليها المؤدي الأساسي في العروض الكبرى. وقوفها على تلك الدرجة هو ما أدّى بجميع شريكاتها المتدرّبات السابقات، المشاهدين وحتى رؤساؤها للنظر إليها. هذا الضغط الهائل المتولد من خروجها من الحشد إضافاً إلى حقيقةِ أنّ نينا لا تتوقف عن النظر لهم بعيون متوترة كونّت ضغط هائل من طرف الحياة الوظيفية لها وكانت المشكلة التي كرسّت نفسها لحلّها.
لكن مع تطوّر الأحداث في الفلم تعلّمنا أنّ نينا امتلكت دائما ضغوطاتٍ في حياتها الشخصية خصوصاً من الناحية الجنسية. أمّ نينا هي العنصر المسبب للتوتر بشكل أساسي في المعادلة هنا مع إستمرارها في تدليل إبنتها وهوسها بإبقائها بجانبها أدّى إلى حرمان نينا من سنين المراهقة في عمرها، التي يتعلّم فيها المرء عادة التواصل مع المجتمع بالشكل الصحيح والخروج من دوّامة العائلة. كانت النتيجة لذلك هو تكوينها صداقاتٍ مع من يريد إستغلالها وهذا ما يفسّر أيضاً مشاكل نينا النفسية وعقباتها كاستمرارها في خدش نفسها بدون إحساس، فكان هذا الضغط كالندبة الكبيرة في حياتها ووجوده مع العامل الخارجي أدّى بها إلى الوصول لمرحلة الهلوسة والخروج عن السيطرة.
في Perfect Blue غيّرت “ميما” عملها من مغنية بوب إلى ممثّلة. كان التّغيير للأسف نابع من رغبة المديرين التي تعمل معهم إضافةً إلى غرورها الداخلي، فجزءٌ من ميما أراد فعلا الصعود من مغني بوب إلى مستوى ممثل عالٍ، هذا ما ولد السؤال الداخلي فيها “هل ما أفعله صحيحٌ فعلاً؟” لكن ما أثّر سلبياً عليها هو ردود فعل بعض الفانز. هذه المهنة تعتمد على شعبية الشخصية ولا ترحم أحداً. إذا كُرهت ممّن كانو يدعمونك ستتحول حياتك إلى جحيم.
لكن الأخطر في هذا المجال الذي لا يرحم هم الـ “Stalkers” وشريحة المعجبين المهووسين بشكل زائد. تم تعريفنا خصوصاً على أحدهم الذي استمرّ بالعبث مع الشخصية الرئيسية إلى أن وصلت لمرحلة الإنفصام والضياع التام. ميما لم تملك مشاكل شخصية سابقاً سوى كونها حساسة جداً لما حولها، لكن الضغط الخارجي هو ما أوصلها لهذه المرحلة.
العقدة التي تواجهها الشخصيات:
من وجهة نظر الشخصيات كانت “نينا” من Black Swan دائما في حيرة مما يجب عليها فعله. لطالما واجهت مشاكل في فهم ما حولها لكن في اطار عملها لم تسطع حتى فهم ما أطلق عليه مدربها بـ “جاذبية البجعة السوداء” فلطالما كانت شخصيتها ميكانيكة وتعمل على تحسين دقة حركاتها بدل محاولة الخروج عنها لبناء عرض مميز للجمهور. هذا كان أيضاً جزأً من حوار الموهبة ضد العمل الشاق. شخصيتها كانت دائما ضائعة في الحيرة لأنّها لم تفهم تماماً ما وجب عليها فعله لخلق تلك الجاذبية والتي تم ربطها أيضاً مع حالتها الجنسية بشكل قوي. هناك أيضاً تلميحات قوية بأنّها واجهت مشاكل نفسية منذ صغرها. كلُّ ذلك ساهم في بناء الأوهام التي رأتها عند تعرّضها لعوامل التّوتر الخارجية.
أمّا عن حالة “ميما” من Perfect Blue فهي معقّدة بشكل أكبر. خصوصاً أنّ الفلم لم يوضّح تفاصيل ما جرى بالنهاية وترك الأمر للتحليل (أو ربما لا.. سأناقش هذا فيما بعد). ميما أحبّت عملها كمغنّية بوب حقاً. هي لم تصادف مشاكل كبيرة في الواقع قبل قرارها بتغيير مجالها، لكنّها تفاجأت جداً فيما بعد بكمّية التضحيات التي يجب عليها القيام بها لتستطيع الصّعود في مستوى الشعبية. لطالما كان Perfect Blue بالنسبة لي عملاً يحاول حقّا إظهار بشاعة الشهرة والمشاكل اللامتناهية التي يجب على الشخصيات المشهورة المرور بها أو العيش معها لتستمر في عملها.
بالنسبة لميما فكان عليها الرمي بجزءٍ كبيرٍ من كبريائها للقيام بمشاهد قذرة لزيادة شعبيتها عند المعجبين وذلك منعكس من الواقع بشكل كبير، فبدون حصولك على عمل “hit” لن تقوم بالصعود بالشهرة بسرعة وسيتوجّب عليك القيام بالكثير لتجمع معجبين من أصناف مختلفة. إضافة إلى حقيقة أنّ ميما لم تدخل هذا المجال لكونها معجبة به جداً أو هدفاً لها إنما بناءً على نصيحة من مديريها. كلُّ ذلك خلق عندها شعوراً بالخيانة لمعجبينها القدماء إضافة لتدخّل شخصية المطارد الذي بمساعدة مديرتها المختلّة قاموا ببناء ذاك الواقع الموازي بالنسبة لميما وهي علقت في الوسط فأصبح لديها ما يشابه انفصام شخصية وأضاعت تماماً شعورها بالوقت والواقع.
يمكننا الملاحظة أنّه في أعماق الشخصيتان الاختلاف هائل لكنّهما تتشاركان نفس الأعراض المتعلّقة بالهلوسة والوهم والضغوطات التي تستمر بتحويل الحالة من سيء لأسوء إلى أن تصل في النهاية للذروة الكارثية.
الهلوسات والإخراج بالمجمل:
عَمِد المخرج أرنوفسكي لشراء حقوق فلم Perfect Blue لاستخدام مشهد الصراخ بالحوض الأيقوني في فلمه Requiem for a Dream الذي استخدمه ساتوشي في الفلم. هذا أعطاه أيضاً إمكانية استخدام مشاهد أخرى في عمله Black Swan ويمكن ملاحظة هذا بكل سهولة:
هذا ما فتح الباب لجدال واسع بين المشاهدين بالنّسبة للتّأثير الهائل من Perfect Blue على Black Swan وإذا ما كان هذا كافياً للقول أنّ العمل مسروق أو أنّه غير مبتكر. وبينما أنني موقن أنّ Black Swan متأثر بشكل هائل من Perfect Blue لا يمكنني تجاهل الجهد الذي وُضع في العمل ويمكنني القول أنّ كلا الفلمين حمل البصمة الخاصة بالمخرج بشكلٍ جذّاب.
في Black Swan تم تصوير الهلوسات على أنّها جزيئات من الوقت تنفصل فيها الشخصية الرئيسية عن الواقع، فتقوم نينا بإيذاء نفسها بشكلٍ أو بأخر لاإرادياً، وتم ربط هذا العنصر بشكل ذكي بأحد العوامل النفسية التي عانت منها الشّخصية منذ صغرها الا وهي خدش نفسها وتورّم أطراف الأصابع. لكن أغلب الهلوسات كانت تنقطع مباشرة مع دخولِ أحدِ الشخصياتِ الأخرى حتّى عند تفاقُمِ المشاكل لازلنا قادرين على التّمييز بين الواقع والخيال بشكل أو بآخر.
في Perfect Blue كانت الهلوسات على مستوىً آخر تماماً. عانت ميما في البداية من تخيّلات وضغط هائل وبعد إكتشافها للمدوّنة الغريبة على الإنترنت التي تقوم بكتابة شعورها بطريقة مختلفة بدأ خطُّ أفكارها بالاختلال وأصبحت تجد نفسها في أماكن عشوائية بشكلٍ مفاجئ. مع تفاقم مشاكلها بدأنا بالضياع تماماً مثلها ففي لحظة تجد نفسها بغرفتها وفي اللّحظة التالية في عملها وهكذا، كنّا نعيش تجربتها تماماً وأحسسنا الضياع الهائل والانفصام الذّي مرّت به إلى أن فقدنا القدرة على استيعاب ما يجري تماماً.
لطالما سمعت الذّم لفلم Perfect Blue على صعيد توضيح نفسه ونهايته بالذات. لكنّي أرى الامر بشكل مختلف قليلاً؛ العمل لم يحاول أن يقدّم لك قصّة واضحة أو ذكية بل جعلك تعيش تجربة فريدة من نوعها مبنية على الضياع والرعب والنفسانية الذي تعيش فيه ميما.
على المستوى الإخراجي العام برع أرنوفسكي فعلاً بتقديم فلمه. إستخدامه لهزّات الكاميرا والموسيقى لبناء جوّ ومحيط مقلق وغير مريح على الإطلاق كما فعل في فلمه السابقة Requiem for a Dream كان عظيماً جداً وأعطى إحساساً متساوياً بين الواقعية والمسرح في الفلم. الكاميرا التي تتبع الشخصيات لمسافات طويلة بدون قطع ساعدت على دعم هذا الشعور ايضاً. إضافةً إلى هذا بنى أرنوفسكي الفلم بأسلوب مشابه ل Requiem for a Dream من حيث التسارع. يبدأ الفلم بشكل بطيء لبناء الشخصيات وإعطاءنا فكرة عمّا يجري ثم يتسارع تدريجيا ليصل أخيراً إلى الذروة التي تمثّلت هنا في أحد أعظم المشاهد التي شاهدتها في أيّ من أفلامه مع الرقصة الأخيرة والتّصوير للبجعة السوداء والبيضاء مع النزاع النفسي المستمر. هذه بصمة أرنوفسكي المميزة في Black Swan.
ساتوشي كون قام ببناء فلمه بمرئيات مشابهة للأفلام أكثر من الأنمي. في الواقع هذا أحد أقل أفلام الأنمي المشابهة للأنمي، بل يلمّح الفلم قليلاً إلى السخرية من تصاميم شخصيات الأنمي في بعض أقسامه:
حتّى تفاصيل العالم (غرفة نينا، مسرح التصوير والكثير) كانت مشابه لأي شيء قد تصادفه بالواقع. لكن هذا لم يمنعه أبداً من استغلال الأنمي كميديا لفلمه بأعلى شكل وأفضل من أغلب الأنميات الثانية. إستخدامه للألوان الحمراء للإشارة لازدياد الصراع الداخلي والجنون، موازاة ما يحدث في تصوير الأفلام مع الصراع الذي تمر به ميما في حياتها، التحويلات الذكية جداً والمبتكرة بين المشاهد، النهاية والتويست الأكبر في مشهد جنوني تماما، لا يسعني الدخول في كل هذه التفاصيل هنا للأسف لأن ساتوشي كون موضوعٌ معقّدٌ جداً عند الحديث عن اسلوب اخراجه وطريقة ايصاله للمعلومات فسأترك ذلك لمقال آخر.
لكن بصمة ساتوشي كون المميزة جداً تقع في اهتمامه الزائد بالاعمال المتعلقة بالتضارب بين الواقع والخيال، كيف نميّز الواقع من الخيال وماذا سيحدث اذا تداخلا، يتمثّل ذلك أيضاً في فلمه Paprika (والذي كان مصدر إلهام للفلم Inception)، واستخدامه لتلك التحويلات بين المشاهد هنا هو ما ميّزه بشدّة. هذا الفلم بالذات من المستحيل أن يظهر بهذه الجودة دون ساتوشي كون.
أنصح بمشاهدة هذا الفيديو عن إستخدام ساتوشي كون لنظرية الألوان واللون الأحمر بالذات بشكل ذكي ومشاهدة هذا الفيديو (مهم فعلاً) عن طريقة استخدام الـ transitions في توضيح الصراع النفسي والعام في الفلم.
في النهاية بالرغم أنّ فلم أرنوفسكي Black Swan كان “أزرقاً” جداً، وبالرغم من تفضيلي الشخصي لساتوشي كون وأعماله، يمكنني القول أنّ كلا الفلمين برع فعلاً في تقديم قصة نفسية مرعبة بأسلوب خاص عبقري وأنّ كلاهما من أهمّ الأفلام على السّاحة التي يجب مشاهدتها لمحبّي هذا التصنيف.
اقرأ أيضاً: الساكوغا، فن التحريك الياباني – مقدمة مختصرة للمبتدئين
مقارنة جملية جدا
لا تعرف من ألهم الآخر ؟؟ و هل في هذا تساؤل ؟؟ الكآبة السوداء من عام 97 و فيلمي أرنوفسكي الأول سنة 99 و الثاني في 2010 فحسب رأيك من ألهم الآخر هنا ؟؟؟ أرنوفسكي في إنكاره لتأثره بأفلام ساتوتشي كون يصبح لصا بإمتياز .. بإستثناء ذلك شكرا على محاولتك رسم حدود التقاطع و التباين بين إسمين كبيرين رغم إيماني بكون أرنوفسكي لم يكن ليغادر الظل لولا نور ساتوتشي كون