ما هو معنى أن “تستمتع” بمشاهدة أنيميشن معيّن؟ هل يقتضي هذا تناسب ستايله معك؟ أو ربّما وجود الكثير من الأكشن والسّلاسة في السّاكوغا؟ ربّما تصاميم لطيفة عالية الدّقة تلعب دوراً ما؟ حسناً هذا ليس ما سنتكلّم عنه اليوم، أو “من” سنتكلّم عنه اليوم. موضوعنا اليوم هو شخص يرى متعة الأنيميشن بمنظور مختلف كثيراً، هو لا يحب أن يعطيك شيئاً لتستمتع به بل أن يضربك به!! هيرويوكي إيماييشي.
(أنصح بالبداية بقراءة هذا المقال عن السّاكوغا وهذا عن رسّام الأنيميشن يوتاكا ناكامورا لاحتوائهما على مصطلحات مهمّة لهذا المقال)
Hiroyuki Imaishi أحد أهم الأشخاص الذين حفروا إسمهم في صناعة الأنمي في العقدين الماضيين وأحد الرسّامين/المخرجين المفضّلين لدي شخصيّاً مع حسّه وتوجّهه الفنّي المختلف تماماً عن باقي الأعمال المعتادة. عندما يعمل هذا الرّجل على عملٍ يعرض في موسمٍ ما ستتعرف عليه بطرفة عين حتى لو لم تسمع بإسمه. لكن فالنبدأ مع المعلومات العامّة:
إنطلاقة هيرويوكي إيماييشي
في صغره، كان شغف إيماييشي دائما موضوعاً في رسم المانغا ومتابعة الأنمي كما هو حال الكثير من الفنّانين. كانت إنطلاقته في رسم الأنيميشن من إيفانجليون كرسّام بينيّات في البداية (In-betweener) (قمت بشرح هذه المصطلحات في مقالي السّابق عن يوتاكا ناكامورا). تعلّم إيماييشي أثناء ذلك الكثير من المخرج هيدياكي أنّو و أثّر عليه في المستقبل تأثيراً جلياً (متمثّلاً في عمل أنّو الّلاحق Kare kano وجلبه لإيماييشي للعمل على مشاهد عديدة مع تغيير أسلوب أنّو الإخراجي لشيء مشابه). انتقل إيماييشي بعد ذلك للعمل على العديد من المشاريع كرسّام أنيميشن مفتاحي (key-animator) وسرعان ما قام ببناء ستايله الخاص الذي يمثّل حرفياً فلسفته الخاصّة عمّا يجعل أنمي ممتعاً.
إيماييشي كـ Key-animator
انتقل إيماييشي مباشرة للعمل على الكي انيميشن في إيفانجليون بعد ملاحظة موهبته وعمل كذلك على الكثير من الأعمال التي تجمع رسامين موهوبين في عمل واحد. ملاحظة لقطات إيماييشي سهلة فالمقاطع التي يعمل عليها ليست كأي شيء آخر ستشاهده. من الجّدير بالذّكر عمله في FLCL كمخرج رسوم ورسام مفتاحيّات. مثلاً:
يمكنك الملاحظة هنا. أسلوب إيماييشي هو الحركة القاسية السريعة الـ “متفجّرة” في عدسة الكاميرا. سلاسة الحركة هنا قليلة لأنها ستلعب دوراً عكسياً في نقل الشّعور الّذي يريده. لكن في المقابل حاول إيقاف المقطع في أي ثانية تريدها وستجد الشّخصيات في وضعيّة جديدة مميّزة وليست off-modelOff-model خارج الشكل – Off-Model تُشير إلى إطار ثابت يُخطئ في نقل ملامح الشخصيّة فتظهر خارج شكلها المعتاد بطريقة غير مقصودة. . ينبع ذلك من تقديره الشّخصي للكرتون الغربي وتوظيف بعض عناصره هنا مع فهم أساسي لكيفيّة الاستفادة القصوى من الأنمي كميديا بدون رسم الكثير من الفريمات المفتاحيّة.
هذه هي عقليّته خلال التّحريك وهو شيء ليس معتاد كثيراً في صناعة الأنمي. الإلهام الأساسي لإيماييشي هو الفنّان Yoshinori Kanada الّذي عمل على الكثير من أعمال الثمانينات خصوصا فلم Birth. شخصيّاً لم أُشاهده لكن يمكنك قراءة التّشابه بسهولة:
كما ستجد في مقاطع إيماييشي يوجد إحساس أساسي متشابه لكيفية حركة عناصر و أجساد الشّخصيات في الفضاء مع كانادا.
بعيداً عن هذا يعمد إيماييشي دائماً لاستخدام تظليل أقل ما يمكنني وصفه بالقاسي و الشّامل. مساحات سوداء داكنة شاسعة للتّظليل تعطي الشّخصيّات طابع شديد ممتاز و “كوول”. مثالٌ ممتاز على هذا هو رسمه للبوسترات الإعلانيّة لغورين لاغان:
يتّجه إيماييشي كذلك في لقطاته إلى تغيير حجم عناصر معيّنة للتّركيز عليها. مثلاً التّركيز على الأطراف في مشاهد الحركة والقتال ستجد الأيدي و الأقدام تملأ الشاشة بشكل مستمر، لكنّها كذلك مفهومة جداً و ليست مجرّد “فرد عضلات” لا تفهم به شيء. مثالٌ على ذلك نجده في لقطة من Re: Cutie honey الحلقة الثّالثة تمثّل كل ما قلته سابقاً في أسلوب رسم إيماييشي المفتاحي:
استخدام ايماييشي للمؤثّرات كثيف ومميّز كذلك. عادة ما تسيطر على الشّاشة وتملك إحساساً كرتونيّاً كونها مرسومة يدوياً بأسلوبه الخاص. لقطة عظيمة من Dead leaves توضّح هذا:
لقطات ساكوغا أخرى ممتازة من عمله:
لقطة من Redline مع توظيف التظليل لأقصى حدوده :
لقطة من Tengen Toppa Gurren Laggan :
لقطة أخيرة من Lupin III :
إيماييشي كـ مخرج
ينتقل إيماييشي بعد عمله على العديد من اللقطات من أنميّات غاينكس كـ FLCL و Kare Kano ليبدأ بسلسلة مشاريع إخراجيّة بقمّة النّجاح والتّميّز. يلتصق إيماييشي بفلسفته الظّاهرة في لقطاته المفتاحيّة لكنّه يحوّلها إلى ثيم وستايل كامل للعمل. التّأثير من الكرتون الأمريكي على أعماله يتجلّى بشكلٍ أكبر من السّابق، مع ذلك فهو لا يتوقّف عن التّجريب بأفكار بصريّة جديدة دائّماً. فالننقاش أهم هذه الأعمال فيما يلي:
Dead Leaves (2004)
أوّل أعمال إيماييشي الإخراجيّة. ويا له من عمل!! يصعب عليّ فعلاً وصف ما ستشاهده هنا فالفلم مشابه لرحلة متسارعة بشكل لا يصدّق مليئة بالهلوسة ومواضيع العنف الجنس و المخدّرات موضوعة في فلم 50 دقيقة.
أؤمن شخصيّاً، بالرّغم أنّه أوّل أعمال إيماييشي الإخراجيّة، أنّ هذا الفلم أكثر ما يمثّل أسلوبه وشغفه وأنصح به الجّميع. يوجد كل ما تكلّمت عنه سابقاً : ظلال قويّة و تصاميم مشابهة لكوميكس أمريكيّة، أسلوب تسارعي وتحريك بوضعيات مميزة.
هنا يبرز حب إيماييشي الشّديد للمبالغة بأسلوبٍ بصريّ. ربّما لاحظت أنّ كل العلامات الّتي ذكرتها سابقا تصب في هدفٍ أو إتّجاهٍ واحد وهو تعزيز العمل بصرياً بمشاهد “Over the top” سواء كان بهدف فكاهي أو لنقل فكرة معيّنة. هذا الثّيم منتشر في جميع أعماله الإخراجيّة.
Tengen Toppa Gurren Lagann (2007)
أضخم أعمال إيماييشي حتّى اليوم وأكثرها تأثيراً في الصّناعة. غورين لاغان مثّل عودة للثمانينات مع الستايل الرّجولي والأكشن المستمر مع لمسة الميكا الأساسيّة كلّه مغلّف في عرض “Over the top” لكل ما تريد مشاهدته من أنمي.
غورين لاغان كان ناتج عن اجتماع إيماييشي بالكاتب Kazuki Nakashima وعملهم سويّة على الحلقة الأولى من Re:Cutie honey في غاينكس. تكوينه للكثير من العلاقات في هذا المشروع سمح له بالبدء بمشروعٍ ضخمٍ مثل غورين لاغان.
يدفع إيماييشي الحدود في هذا المشروع إلى أقصاها، مع تصاميم ميكا مشابهة للوحوش وتصاميم شخصيّات أيقونة، طاقم أنيميتورز عملاق ومواهب كبيرة مثل Sushio و Nishigori وغيره، كتابة ناكاشيما المتناسبة تماماً مع نظرة المخرج. هذا المشروع هو أحد تلك الأشياء التي لا تتكرر إلا نادراً.
قام إيماييشي كذلك بالعمل على مشروع Panty & Stocking with Garterbelt مع فريق أنيميتورز هائل. يمكنني تشبيهه بـ Dead leaves من ناحية التّأثير الهائل من الكرتون الأمريكي عليه.
تأسيس استديو Trigger
عقب مشروع بانتي اند ستوكينغ قرار إيماييشي بصحبة Masahiko Otsuka والكثيرين من عمّال استديو Gainx بمغادرة الاستديو لتأسيس استديو خاص بهم و أخذ مخاطرة أكبر في صناعة الأنمي. وهكذا تأسس استديو Trigger بتاريخ 8/2011.
بدأ الاستديو بعمله على العديد من المشاريع الصّغيرة نسبيّاً مثل أفلام Little witch academia بقيادة المخرج يوه يوشيناري والأنمي الغريب Inferno Cop. لكن ما عقب ذلك هو أكبر مشروع للاستديو حتى اليوم وأيقونته Kill La Kill.
Kill La Kill (2013)
هل تذكر عندما قلت أنّ تكرار مشروع مثل غورين لاغان نادر؟ حسنا كنت محقّاً. لأنّ كيل لا كيل برغم كلّ التشابه الذي يمتلكه لغورين لاغان فهو كذلك نظرة مختلفة سواءً على صعيدٍ قصصيٍ أو إخارجي.
من الطّريف أنّ عنوان المقال “الرّجل الّذي سينقذ صناعة الأنمي” مقتبس من ميم كان منتشر بين فانز تريغر عند إطلاق كيل لا كيل “الأنمي الذي سينقذ صناعة الأنمي” كما قال الفانز. بالتّأكيد هذا ليس صحيحاً حرفيّاً لكنّي كذلك أؤمن أنّ هناك القليل من الحقيقة في ذلك.
كيل لا كيل ناتج عن اتّحاد إيماييشي والكاتب ناكاشيما مرّة أخرى في عمل ضخم حصل على نجاحٍ عالمي. لكنّ اسلوب الإخراج هنا يأخذ توجّهاً مختلفاً قليلاً. في كيل لا كيل تم إستخدام الكثير من الأنيميشن التّجريبي؛ طرق وأساليب مبتكرة لتحريك عناصر معيّنة في الأنمي، ليس ذلك فقط بل تم توسيع الفكرة لربطها بشخصيّات كاملة هنا. شخصيّة هاريمي نوي على سبيل المثال:
كان يتم تحريكها بمعظم المشاهد كـ قطعة كرتون او عنصر ثنائي الأبعاد في وسط ثلاثي الأبعاد. البعض فسّر هذا على أنّه “نقص في الميزانيّة” وهو شيء غير منطقي تماماً بالمقارنة مع مشاهد السّاكوغا الأخرى في العمل. طاقم العمل لم يقم ببساطة “بوضع كل الميزانية في تلك اللقطة ووصل للقطات نوي فلم يجد المال ثم قرر تحريكها بالفوتوشوب” .. صناعة الأنيميشن لا تعمل هكذا.
حركة نوي في كيل لا كيل هي دليل الإبداع والمحاولة المستمرّة لإضافة عناصر جديدة مبتكرة للعمل. شخصيّة نوي في الأنمي تتحدّى المنطق نفسه وتصارعه، تقفز بين الشّخصيّات بشكل غير منطقي و تكسر البعد الرّابع عادةً. فمن المعقول جدّاً تحريكها بهذا الشّكل ثنائي الأبعاد وكأنّها ليست في عالم الشّخصيّات ذاته.
الأمر لا يقتصر على شخصيّة نوي. الكثير من اللّقطات الكوميديّة في كيل لا كيل كان لا تتجاوز 3 فريمات معروضة بشكل متتالي. لكنّها عرضت هكذا لجعلها مضحكة وضبط توقيت الـ Punch line بشكل ممتاز، ليس لسببٍ آخر. بعضها كان الكثير من الفريمات المقطوعة المتتالية بسرعة غير قابلة للاستيعاب خصوصاً لشخصيّة ماكو العظيمة:
وهناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي تنبع من حب التجريب.
شاهدت العديد من المقابلات لإيماييشي (هذه وهذه على سبيل المثال) لفهم ما يصبو إليه وما يحاول صناعته. دائماً ما كان يركّز على عنصرين رئيسيين في مشاريعه وفلسفته واضحة في أعماله وهما: صنع شيء ممتع للمشاهد (حتّى ولو لم يرغبه)، والابتكار والتّجديد الدّائم. أعماله كانت دائماً ناجحة أكثر في الغرب لأنّها بطبيعة مناسبة لذاك الجّمهور لكنّه يصنعها حسب مفهومه الشّخصي لما هو ممتع وهذه البصمة الشّخصيّة الّتي يضعها فيما يصنعه هي ما تجعله فنّاناً فريداً بحق.
معضلة اللقطات الثّابتة (Static shots)
لدي مشكلة عامّة مع بعض الأنميّات التي تميل لعرض مشاهد ثابتة طوال الوقت. للأسف أصبح هذا هو الشّائع حالياً في الصّناعة لدرجة أنّ الكثير من اقتباسات الأنمي تستخدم اللّقطة ذاتها في صفحة المانجا وتقوم بإضافة الوان و حركة فم و سحب الصّورة إلى طرف آخر من الشّاشة مع إضافة خدع بصريّة للحركة مثل خطوط الحركة على أطراف الشّاشة أو تحريك الكاميرا على صورة ثابتة (سأتكلّم عن هذا بالتّفصيل في مقالٍ آخر). هذا هو المسيطر حالياً على الصّناعة وهو موجود حتّى في الأنميّات الأوريجينال. كل مخرج يحاول إضافة التويست الخاص به على عمله لجعله مثيراً للإهتمام أكثر بصريّاً.
في حالة أعمال إيماييشي فهذا مختلف هيكليّاً. كيل لا كيل و غورين لاغان يقللّان عدد المشاهد التي تحتوي Static shots عن طريق جعل كل شيء يتحرّك بقدر الإمكان. شاهد بداية الحلقة الأولى من كيل لا كيل مثلاً:
في كل ثانية هناك الكثير من الأشياء التي تحصل في الوقت ذاته قد يصعب على الشّخص التّفكير بها سويّة (عدا تلك اللقطات الثّابتة التي تهدف لبناء التّوتر للانفجار التالي).
لاحظ كذلك في اللّقطة السّابقة الإيقاع المتواصل. تبدأ اللّقطة ببناء التّوتر اتّجاه الباب ثم بوووم ينسحق الباب للطرف الاخر مع دخول قدم عملاقة (إطلاق التّوتر). نأخذ هنا أيضا ثانيتين لبناءٍ آخر للتوتر والذي سينفجر بعودة حطام الباب وتفجير الصّف كاملاً. ينتقل المشهد فيما بعد بدخول غيراموري وبحجمٍ عملاق (تذّكر ما قلته سابقاً عن تغيير إيماييشي لأحجام بعض العناصر لإيصال الفكرة. هنا يركّز المشهد على أنّ غيراموري ذو سلطة كبيرة جداً في هذه المدرسة أكبر من الأستاذ حتّى). للمزيد من هذا التّحليل المفصّل للمشهد أنصح بمشاهدة هذا المقطع:
نقطة أخيرة أريد التّكلّم عنها هنا هي التّصاميم البسيطة. تميل دائماً هذه الأعمال إلى عرض تصاميم غالبٌ عليها البساطة. مثلاً تصاميم شخصيّات غورين لاغان العظيمة من تصميم Atsushi Nishigori لا تميل فقط إلى البساطة بل هي أيقونة. كل شخصيّة في غورين لاغان تمتلك قطعة وشكل جسم مميّز (نظّارات سيمون وكامينا، شكل جسم يوكو وغيره) لكنّها أيضاً قابلة تماماً للتّحريك بكافّة أنواع التّوجهات، سواءً كان تحريكاً فكاهيّا كرتونيّاً أو جادّاً ملحميّاً.
لا يسعني سوى إعتبار هذه التّصاميم عبقريّة وكذلك مناسبة جداً لكونها في “أنمي”. لأنّ مشكلة اللقطات الثابتة مرتبطة كذلك بتصاميم الشّخصيّات المعقّدة غير قابلة للتّحرك أو التّي تكلّف الكثير من الوقت لتحريكها. ما حصلنا عليه هنا هو تصاميم بسيطة لكن تعابير وحركات كثيرة وهو ما على صناعة الأنيميشن أن تكون عليه (وهو أيضاً ما يجعلني أؤمن أنّ هذه الأعمال لن تكون بذات الجّودة والإبهار على شكل مانجا أبداً، لأنّها صُنعت ليتم تحريكها)
هنا ينتهي هذا التّعريف، أظنّ أنّ ما يعجبني في إيماييشي بشكلٍ شخصي هو أنّ جميع أعماله تملك ذاك الإحساس أنّها خٌلقت لتكون أنيميشن. ذاك الفهم الأساسي لهذه الصّناعة والحاجة الدّائمة لابتكار شيء جديد يعبّر عن الفنّان بدل إستهداف الجّمهور صاحب المال دائماً (الأوتاكو الياباني) يجعلني أؤمن أنّ صناعة الأنيميشن لا تزال قادرة على المضي قدماً في الإبتكار والتّجديد.