مانغا بلام! (Blame!) جحيم التكنولوجيا في المستقبل البعيد

تكلمت في مقالي السابق عن حبي للـmono no aware وعن أسره للمشاهد وعن الطبيعة والسلام… حسناً سأتحدث هذه المرة عن النقيض التام لكل ذلك… مانغا Blame! أو بلام -تلفظ بلام، كناية عن صوت مسدس كيلي بطل القصة- هي أيضاً من النوع الذي يأسر المشاهد ويشعره بأنه جزء منه ولكن بشكل جحيمي بحت… يمكنك أن تقول أن أحداث مانغا بلام هي أسوأ مستقبل ممكن ينتظر البشرية.

عالم مانغا بلام!

لم تعد هناك أرض، لم تعد هناك سماء، كل ما ستراه في حياتك البائسة هو ممرات وأنفاق وجدران لامتناهية لن تخرج منها ولو ظللت تمشي في خط مستقيم طيلة عمرك.

لم يعد البشر كسابق عهدهم، أصبح كثير منهم يعيش على شكل قرى أو جماعات متفرقة في أنحاء هذا “البناء” يختبؤون خوفاً من الحراس Safeguards، يخرجون من مخابئهم كلما سنحت لهم الفرصة لإيجاد مصادر للطاقة. حياتهم أصبحت كحياة رجال الكهوف في العصر الحجري، يستعملون ما يجدونه من آلات وأدوات دون أن يفهموا تماماً تفاصيلها، لا يقرؤون أو يكتبون، حتى إن بعضهم لا يعرف ما هي الحروف والكلمات أصلاً.

هذا البناء الكبير مقسم لطوابق أو حجرات عملاقة، لم يتم ذكر حجم هذه الطوابق ولكن حقيقة أن الجدار الفاصل بين طابقين قد يصل سمكه لـ27 كيلومتراً تعطيك تلميحاً عن حجمها، ويكفي أيضاً أن تعلم أن البشر يعيشون متفرقين بين الطوابق، كل منهم يعيش كامل حياته في طابق واحد، جدران هذه الطوابق مصنوعة من مادة خاصة تسمى بالـmegastructure لا شيء يخترقها، ولطالما حاول البشر أن يخرجوا منها ولكنهم لم يستطيعوا خدش الجدران مهما كانت التكنولوجيا التي استعملوها فهذه الجدران ذات قساوة مطلقة.

-الشخصيات

الشخصيات في مانغا بلام تكاد تكون كالأصنام، لا شيء يميزها عن غيرها، لا شيء يميز كيلي حقاً عن أي من الوحوش التي تصادفه، تستطيع اختصار شخصيته بالكامل في أنه يبحث عن “الجينات التي تقبل الاتصال بالشبكة” Net Terminal Genes، ليست لديه أية صفات أخرى… ليست هناك تعقيدات، ولا حتى أي انفعالات، هو متجول صامت يفعل ما يجب أن يفعله وحسب… أستطيع القول بأنه لا يمتلك أية مشاعر، ذات الأمر ينطبق على بقية الشخصيات الأساسية، لا يظهر أيٌّ منهم -تقريباً- أية ردات فعل عاطفية تجاه أي شيء، هم لا يصرخون أو يغضبون أو يحزنون.


تسوتومو نيهيي ليس الأبرع في إبراز خصائص شخصياته، أعتقد أن هذه هي نقطة ضعفه الكبرى، ولكن مع هذا أعتقد أن ذلك قد انعكس بالإيجاب على بلام، طبيعة العالم الذي تحكمه الآلات والجمادات كانت مناسبة جداً لشخصيات كهذه. (بعكس مانغا سيدونيا مثلاً فقد أثر ذلك سلبياً فيها)

-كيلي ومهمته الأزلية

بطلنا “كيلي”… تستطيع وصفه بأنه “رحالة” يبحث عن شيء ما، يتجول في هذه الأنفاق منذ زمن بعيد، هو نفسه لم يعد يذكر منذ متى أو حتى لماذا تماماً، تراه لا يعرف حتى أساسيات العالم الذي يعيش فيه، كل ما يعرفه أنه يبحث عن الجين ذاك وفكرة عامة عن بعض الأشياء حوله، ربما هو أثر الزمن، فكيلي كما ذكرت سابقا يبحث عن الجين منذ زمن بعيد في مهمة موكلة إليه.

-مسدس كيلي

يمتلك كيلي مسدسا خارقاً لا يقف شيء في وجهه، طلقته تخترق كل شيء أمامه (شبهه أحدهم بوان بانش مان الذي يقتل أي عدو بلكمة واحدة)، كلما رآه عدو أو صديق كان يثير دهشته، جزء من التكنولوجيا المفقودة التي لم يعد باستطاعة البشر إنتاجها من جديد رغم أنهم حاولوا ذلك مراراً وتكراراً، وهو الشيء الوحيد الذي يستطيع اختراق جدران الطوابق مما يجعل كيلي الكائن الوحيد القادر على التنقل بحرية في العالم.

-الزمن غير مهم

تبدأ مانغا بلام بعبارة “ربما على الأرض، ربما في المستقبل” كان هذا تصغيراً واضحاً لأهمية زمان ومكان الأحداث.

في الحقيقة، أحداث المانغا تمتد عبر آلاف أو ربما ملايين السنين، لا أحد يعلم تماماً كم هي المدة الزمنية بين الفصول أو حتى الصفحات، فمثلا في إحدى المرات يستخدم كيلي منظاراً ليرى جداراً ما، لنرى أن المنظار قد كبر الصورة 23.000 مرة لكي يصبح الجدار واضحاً، يمشي كيلي نحوه ليصل بعد صفحتين في المانغا.

أو مثلاً يصعد كيلي مرة درجاً لولبياً يرتفع 3000 كيلومتر للأعلى ليصل بعد أربع أو خمس صفحات.

مثال آخر… تبدأ إحدى الفصول بملاحظة: “بعد 2244096 ساعة” أي أن أحداث هذا الفصل تجري بعد الفصل الماضي بـ256 سنة تقريباً، كانت هذه قفزة زمنية بلا أي سبب يذكر، ولو أن الكاتب لم يضع هذه الملاحظة لم تكن لتلاحظ أبداً أن هناك قفزة ما قد حصلت فالشخصيات والأحداث كلها مازالت كما هي.

هنالك عدة أمثلة أخرى لكن لا سعة لذكرها.

-العبثية

تستطيع وصف العالم في بلام بأنه ميت بلا حياة، تقريباً كل شيء مصنوع من دارات ومعدن، كل شيء يعمل وفق نظام يخدم بشراً غير موجودين، ترى قطارات تتوقف في محطات ثم تمشي بلا سبب، ترى رجالاً -ونساءً- آليين من المفترض أنهم لحماية البشر ولكن في الحقيقة يعملون على إبادتهم وبات البشر محكومين بالانقراض، ترى أيضاً آلات بناء تستمر في العمل بلا هدف، تبني وتهدم بشكل أعمى منذ آلاف أو ملايين السنين حتى أصبح حجم البناء أكبر من مدار المشتري.

ربما سمع بعضكم بConway’s game of life لعبة الحياة، هي برنامج يحاكي عالماً افتراضيا يعمل وفق قوانين بسيطة جداً ومختلفة عن عالمنا، يمكنك بواسطة هذه القوانين خلق “كائنات” تستطيع أن تتكاثر وتصنع كائنات أخرى بحركات معينة بشكل تلقائي تماماً… دون سبب أو هدف ودون وعي لأي شيء، تستطيع مقارنتها بعالم بلام فالآلات تديره بالكامل وتصنع آلات أخرى بشكل دوري رغم أن كل شيء هو عبارة عن دارات وكتل معدن متحركة.

الكائنات السيليكونية (فوق) والحراس (تحت)

-الكائنات

كثير من الكائنات تسكن جوف هذا العالم الميت، معظم ما نراه هو إما الحراس الذين يقتلون أي كائن يرونه، أو المخلوقات السيليكونية Silicon creatures وهي كائنات غامضة تحارب الحراس دوماً لسبب ما، توجد أيضاً عدة أنواع من البشر – كما ذكرت، الأحداث تجري في المستقبل البعيد جداً ويعتقد الكاتب أن التطور قد قسم البشر إلى عدة أصناف- هنالك أيضا عدة كائنات أخرى ولكن ليست بذات الأهمية، لدينا بعض الديدان العملاقة والوحوش الغريبة والمرعبة التي تظهر من حين لآخر، ولدينا الكثير والكثير والكثير من الذكاء الاصطناعي.

الرسم وتجربة القراءة

أبرز ما يميز نيهيي عن غيره من المانغاكا هو أنه كان مهندس عمارة في السابق، كان لهذا أثر كبير جداً على أعماله، أعتقد أن خلفياته هي أفضل ما رأيت في أي مانغا قرأتها، تفاصيل المباني والأنفاق المذهلة تعطي شعوراً بالواقعية وكأنك تقف أمامها، والمانغا بدورها تركز كثيراً على استعراض المباني يميناً يساراً… كثيراً ما تمشي الشخصيات بجانب مبنىً أو حفرةٍ ما… جسور أو ساحات، أو مبانٍ داخل مبانٍ، مبانٍ داخل جدران، جسور داخل مبانٍ، جدران داخل جدران…أشياء غريبة نتجت عن عبثية عمل الآلات على مدى كل هذه السنين.

أثر خبرته كمهندس عمارة واضح جدا في تصميم المباني

“الضياع” جزء مهم من تجربة القراءة، ربما يجب أن تتخيل أنك كيلي الذي يمشي منذ قرون يبحث عن الجين بشكل عشوائي وبلا جدوى، خاصة في القراءة الأولى، لا أعتقد أنه من الممكن أن تقرأها مرة واحدة وتفهم كل ما فيها، أحبّذ قراءة بعض الشروحات أو التفاسير بعد إنهائها ففي الغالب أنك ستفهم بعض الأجزاء وتغفل عن أجزاء أخرى.

السبب هو أن مانغا بلام لا تحتوي على الكثير من الكلام، بعض الفصول تحتوى على كلمة أو كلمتين فقط. تستطيع إنهاءها في عدة ساعات ولكنني أنصحك بالتأنّي قليلاً، يتم سرد جزء مهم من القصة في بلام عن طريق الرسوم وليس فقط بالحوار والكلام، أضمن لك بأنك لن تفهم شيئاً البتة إن قرأتها بسرعة ودون انتباه. شخصياً قرأت المانغا 3 مرات، وكل مرة أشعر بأنني أقرأها لأول مرة، فكل مرة أكتشف وأفهم أشياء لم أكن منتبها لها سابقاً.

التباين في مستوى الرسم بين الوحوش والأبطال في ذات الصفحة في بداية المانغا

مما يثير إعجابي أيضاً هو التطور الهائل الذي طرأ على قدرة نيهيي على الرسم، في البداية كان رسم الشخصيات سيئاً بشكل متناقض مع رسم الخلفيات والوحوش الذي كان رائعاً. حتى إن تصميم شخصية كيلي كان يتغير بين الفينة والأخرى.

لم ينضج أسلوب نيهيي في الرسم إلا في المجلد الثامن أو التاسع تقريباً لنرى شكل كيلي النهائي، واكتسبت أيضا كل من الوحوش والمباني تفاصيل وتعقيدات هائلة في الرسم.

يجدر بي أن أذكر أن مانغا بلام، وجميع أعمال المانغاكا الأخرى تجري أحداثها في نفس العالم، في الحقيقة أظن أن كل قصة من قصصه هي عبارة عن حقبة من تاريخ البشرية المستقبلي، ورغم أن ترتيب القراءة ليس مهماً جداً إلا أنني أظن أن البدء ببلام هو أفضل خيار.

فيلم Blame! 2017

حصلت مانغا بلام على فيلم في سنة 2017 أنتجه استديو Polygon Pictures… لا أنصح أي أحد بمشاهدة الفيلم قبل قراءة المانغا، يغطي الفيلم جزءاً ضئيلا جداً من القصة الكاملة ويتعامل معه على أنه هو هدف القصة بالكامل… يشرح الفيلم الكثير الكثير عن تفاصيل العالم بشكل يسيء لتجربة القراءة، وقد غير وحذف الفيلم بعضاً من أساسيات عالم بلام مما جعل القصة غير منطقية أبداً -فعلياً، في الفيلم يجب على القصة أن تنتهي قبل أن تبدأ أساساً بسبب تغييراته- وفوق كل ذلك لم يقم الفيلم بعرض تفاصيل المباني والأنفاق كما يجب وأعطى تجربة مختلفة تماماً تسيء للتجربة الأصلية التي لا غنى عنها.

على العكس من ذلك أرى أن الاقتباس الآخر لنيهيي Knights of Sidonia والذي أنتجه نفس الاستديو كان موفقاً جداً ولا مانع من مشاهدته وإكمال المانغا، ولكنني مازلت أظن أن المانغا كانت أفضل.

خاتمة

في النهاية، مانغا بلام ليست مانغا يحبها الجميع، أنصح من يحب أن يرى عالماً متكاملاً ويغوص في حيرة كبيرة قبل أن يبدأ بفهم أي شيء أن يقرأ أعمال نيهيي بشكل عام وبلام بشكل خاص، أتمنى أن يستمر المانغاكا في عطائه ويكتب مانغات أخرى لتجيب عن الأسئلة العديدة التي ما زالت تحير كثيراً من معجبيه.

ترغب باستلام اشعار عندما ننشر مقالاً جديداً؟

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.