لماذا عليك مشاهدة رحلة الفتاتين الأخيرة

قبل أن أبدأ، هذا المقال طويل جداً ولكن يمكن اختصاره بجملة واحدة: شاهد رحلة الفتاتين الأخيرة.

إن كانت تلك الجملة مقنعة بما فيه الكفاية بالنسبة لك، وكنت تثق بآرائي واقتراحاتي في الأنمي، فاذهب وشاهد ولا تضيّع وقتك بقراءة المقال. ولكن إن لم أنجح بإقناعك فتابع القراءة؛ هذا المقال موجّه لمن لم يشاهد الأنمي، أو من لم يعطه فرصة بعد رؤية الملصق أو الاسم أو العرض الترويجيّ. ولن أخوض فيه أبداً بما سيفسد عليك تجربة الأنمي.

ولكن، قبل أن نبدأ الحديث عن الأنمي نفسه، ولماذا عليك مشاهدته، علينا الحديث قليلاً عن:

الحرب العالميّة الثانية

في 1945 ضُرِبت اليابان بقنبلتين نوويتين في مدينتيّ هيروشيما وناغازاكي، ليكون ذاك الحدث هو جرس انتهاء الحرب العالميّة الثانية، وبداية سنوات طويلة من “السلم الدوليّ” والعواطف المعادية للحرب والمؤيّدة للسلم. الأحداث تلك لم تؤثّر فقط على سطور كتب التاريخ، بل عاشت ضمن قلوب الناس في تلك الفترة وما تلاها، وانعكست على الفنّ والثقافة بشكل مباشر.

عشرات الكتب والمذكّرات والأفلام التي وصفت فظاعة الحرب وحاولت نقل تجارب من عايشوها للأجيال القادمة، سواء بالتوثيق أو بالخيال، بعضها حكى قصصاً حقيقيّة عمّا جرى حول العالم وبعضها الآخر حاول نقل رعب الحرب إلى عوالم خياليّة، ليصوّرها بطريقته الخاصّة ومن زاويته الخاصّة.

وفي حالة اليابان، كانت القنبلتان النوويتان ذاتا تأثير محوريّ في ثقافة وفنّ ما بعد الحرب، من أنميات الميكا التي حاولت معالجة “القوّة الخارقة” التي تمثّلت بالقوّة النووية، ومحاكاتها بالروبوتات العملاقة التي يمكن استخدامها للخير أو الشرّ، بحسب من يقودها ويسيطر عليها.

لفترة طويلة، تأثّر الأنمي بهذا الحدث تأثّراً لا يمكن إنكاره، ولكن مع مرور الزمن، لم يعد الحديث عن “ما بعد الكارثة” بالطريقة نفسها منطقيّاً -على الأقلّ بنظري- ولم يعد الحديث عن التشرد والدمار والجوع والفقر وكلّ ما يمرّ به الناس بعد الحرب كافياً لتصوير هول الحروب. منذ هيروشيما وناغازاكي تغيّر الكثير، والحرب الآن لم تعد تهدد “الاستقرار” البشريّ فحسب، بل أصبحت تهدد وجوده بالكامل.

رحلة الفتاتين الأخيرة لا يصوّر فحسب المعاناة التي تعيشها الفتاتان، ولا الدمار الذي يحيط بهما، ولا الألم الذي تمرّان به؛ بل يصوّر أكبر المخاوف البشريّة، الخوف الذي يجعل كلّ ما سبق من الدمار والتشرد والجوع والفقر والخوف وفقدان الأحبّة “نفحات أمل عطرة” بالمقارنة: الخوف من العدم.

رحلة الفتاتين الأخيرة

فتاتان صغيرتان لطيفتان، بتصميم شخصيّات “هلاميّ” رائق يبعث على الراحة، ترتديان ملابس عسكريّة، وتقودان درّاجة مجنزرة دون وجهة محددة. الأجواء المحتقنة والجدّية التي تبدأ بها القصّة ويتعرّف على أساسها العالم تتلاشى في اللحظات الأولى، ليظهر تحتها أجواء أكثر هدوءاً وأكثر حزناً.

الحرب نفسها لا أهمّية لها هنا ولا السبب وراءها ولا متى قيامها وانتهاءها. المهم فقط هو هذه اللحظات الهادئة، الرحلة الأخيرة التي تقوم بها الفتاتين، والتي قد تبدو للوهلة الأولى في قمّة العدميّة والعبثيّة في عالم متهالك لم يبقى فيه سوى الركام والأسلحة المعطّلة، حيث من النادر حتّى العثور على “كائن حيّ” آخر.

هذه الرّحلة التي تعتمد على الرابط الغريب بين الفتاتين المختلفتين قلباً وقالباً، الرابط الذي يدفعهما للمتابعة في المسير دون وجهة محددة، الرابط الذي يمنعهما من “الاستسلام” رغم كلّ ما يحصل؛ هذه الرحلة تزرع عبر هذا الرابط الأمل في أقصى ما يمكن للبشريّة الوصول له من دمار، وتظهر القوّة الحقيقيّة في الروح البشريّة، حتى عندما تدرك أنّها “النهاية” الحقيقية.

وعلى الرغم من هذا، لا يمكن اختزال أجواء هذا العمل بقولنا أنّه “يبعث على الأمل” أو “يشعرك بالحزن” أو “يجعلك تعايش الوحدة الحقيقيّة” أو “يدفعك بعيداً عن أو باتجاه العدميّة” – فهو يفعل كلّ هذا بطريقة طبيعيّة، ويجعلك تحكم بنفسك في كلّ موقف على ما يجري من أحداث بسيطة، دون أن يحاول فرض وجهة معيّنة أو شعور معيّن، عليك كمتابع.

الهدف هنا ليس إقناعك بأنّ الحرب سيئة بعرض أهوالها وفظاعتها، بل من خلال عرض جمال الحياة حتّى عندما ينتهي كلّ شيء ويتّجه للعدم.

تشيتو ويوري ودروس الحياة

كما ذكرت، تشيتو ويوري شخصيّتان مختلفتان بكافة المعايير، حتّى عند تصميم الشخصيّتين أُبدي اهتمام شديد لإظهار هذا الاختلاف، وبرأيي السبب وراء هذا أنّ كلّاً منهما قادم من طرف من أطراف النزاع؛

خوذة تشيتو لا تمتلك علامة + الموجودة على خوذة يوري، وبزّة يوري لا تمتلك علامة + الموجودة على بزّة تشيتو. ومن الواضح أنّهما -أو والديهما- قررا أن يتبادلا أجزاء من الملابس. العيون السود مقابل العيون الزرق، الشعر الأسود مقابل الشعر الأشقر، الطباع الهادئة وحبّ القراءة والتعلم مقابل الطباع النشطة وحب الحركة والعفوية الأقرب للبلاهة أحياناً.

كلّ هذا يشار إليه دون الحديث عنه بشكل مباشر، وفي المشهد الأوّل، تدخل الفتاتان بحرب مشابهة لتلك التي دخل فيها الكبار، حول قطعة من الطعام، لتسحب يوري على صديقتها تشيتو السلاح.

ينتهي المشهد بحلّ بسيط للنزاع، لا تلقي خلاله الشخصيات العبر والمواعظ حول الحرب، ولا تحاول اعتلاء تلّة الصواب والحقيقة لتخطب على المشاهد كلمات خاوية، بل من خلال حديث بسيط هادئ بين فتاتين، يجمعهما أكثر مما يبدو للعين من النظرات الأولى.

أجل، تشيتو ويووري مختلفتان جداً، ولكنّهما في هذه الرحلة سويّة، وصداقتهما تتخطى هذا الاختلاف.

بالطريقة نفسها تبني القصّة العديد من المواقف، بداية من دخول طبيعيّ للحدث، ونهاية بحديث هادئ بين الفتاتين، ودون فرض أفكارها، لتصبح كلّ حلقة عبارة عن مجموعة من الدروس الحياتيّة التي لا تقتصر على الحرب فحسب، بل تحاول الدخول بكلّ زوايا الحياة.

الصمت والموسيقى

في واحد من أفضل المشاهد في هذا العمل، يعمّ الصمت تماماً، وتسيطر أصوات المطر والموسيقى الهادئة على المشهد تحت عنوان بسيط “صوت المطر” يلخّص برأيي قمّة أسلوب هذا الأنمي باستغلال الصمت والموسيقى؛ لا داعي للكلام طوال الوقت، الصمت قادر على التعبير بنفس القوّة.

في المرة الأولى التي شاهدت فيها الأنمي وحيداً لم أدرك تماماً قدرته على “سلب” الانتباه على الرغم من الصمت والهدوء الذي يحفّ مشاهده، ولكن عندما أعدت مشاهدته مع أحد أقربائي، أدركت أنّ للطريقة التي يتوزّع فيها الصمت والموسيقى والكلام في هذا الأنمي معنىً مميزاً، فقد كان قادراً على إسكاتي -وقريبي- طوال فترة مشاهدتنا، على الرغم من أنّنا لا نصمت عادة حتّى في أكثر الأعمال جدّيّة.

في كثير من الأحيان في هذه القصّة لا داعي للكلمات، والكاتب لا يدفع بشخصياته للحديث لتعبئة هذا الفراغ، بل يترك المجال للمشاهد كي يستوعب ما يجري وحده غارقاً في ما يراه من مناظر خياليّة وموسيقى هادئة.

الحوارات نفسها عندما تكون موجودة، لا تخرج من سياقها لتحاول إيصال فكرة، الانسيابية في الحوارات والانتقال بين الشخصيّتين بطريقة ديناميكيّة تجعل الحوارات ممتعة ومثيرة للاهتمام دائماً، وهو ما يجعل استشفاف العبرة منها أكثر تأثيراً برأيي حتّى ولو كانت هذه العبرة مبهمة في النهاية.

هذا الهدوء والصمت وما يرافقهما من موسيقى هادئة، جزء كبير أيضاً من الأجواء التي ذكرتها في البداية، وله دور كبير في إيصال مشاعر الوحدة والعزلة، وفي الوقت نفسه الأمل والهدوء، لمن يتابع الأنمي.

النهايات

الرحلة الأخيرة، الناجيتان الأخيرتان، الحرب الأخيرة، المدينة الأخيرة، الكتاب الأخير، السمكة الأخيرة، الخبزة الأخيرة.

تركيز الأنمي على النهايات ليس فقط جزءاً من هويّته وروحه برأيي، بل هو جزء من الرسالة التي يحاول إيصالها، والتي يمكن تلقّيها بالعديد من الطرق.

بالنسبة لي، هذه النهايات هي ما يجعل القصّة محزنة ومؤثّرة، والطريقة التي تتعامل الشخصيات معها تبعث على الأمل تارة، وتشعر بالوحدة تارة أخرى، لتبنى حول كلّ تلك العناصر الأجواء التي تغرقك في هذا العمل وتضيّعك في تفاصيله.

ملاحظة أخيرة

سيدبلج هذا الأنمي للعربية ويعرض على Spacetoon Go قريباً، بحسب نشر المغنّية رشا رزق لمشاهد من شارة الأنمي بالعربيّة. شخصياً أجد هذا خبراً جيّداً إن تم اقتباس الأنمي بطريقة جيّدة وتوطينه دون عبث كبير بالأصل، طالما لم يحوّل إلى عمل عن ويلات الحرب ويبالغ في تقديم الميلودراما فيه، فلن يكون هناك مشكلة.

بنفس الوقت، الافتتاحيّة يمكن تفسيرها على أنّها تشير لهذا، لذا لا يمكنني الجزم بجودة الدبلجة قبل صدورها. الأفضل بالتأكيد مشاهدة الأنمي بالترجمة قبل مشاهدة الدبلجة.

ترغب باستلام اشعار عندما ننشر مقالاً جديداً؟

هادي الأحمد

هادي الأحمد

أحب النظر لقصص الأنمي من زوايا مختلفة.

المقالات: 50

3 تعليقات

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.